الحقيقة أن الحديث عن الملحمة المصرية العظيمة التى قام بها الجيش المصري الباسل فى أكتوبر 73 يحتاج لمجلدات ضخمة وليس لسلسة مقالات محدودة المساحة والتوقيت، فلكل بطل من الثمانين ألفا الذين عبروا القناة قصة وبطولة، وإدارة المعركة سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا تمت بما لا يتخيله البشر، أما الشعب المصرى فقد أظهر معدنه الأصيل طوال أيام المعركة، ويكفى القول بأن سجلات وزارة الداخلية لم تسجل محضرا جنائيا واحدا منذ قامت المعركة وحتى انتهت، ولم يحدث شجارا أو سرقة، فالجميع يرفعون أكف الضراعة إلى المولى عز وجل وهم يتابعون بشغف انتصارات ابطالنا على الجبهة، والتى أكدتها كل وسائل الإعلام العالمية حينها، وما زالت كلمات الرئيس الراحل أنور السادات ترن فى آذاننا حين أعلن انتصار جيشنا العظيم فى خطابه التاريخى أمام مجلس الشعب فى 16 أكتوبر، وبعد هذا الخطاب التاريخى عمت الفرحة شوارع مصر ودوت الزغاريد وارتفع صداها لتصل إلى جنودنا على الجبهة، وأدركت إسرائيل أنها مهزومة لا محالة خاصة وأن الجيش المصرى يتقدم يوما بعد يوم ويحقق انتصارا عظيما يفوق الخيال، وظلت الاشتباكات مستمرة حتى أعلنت إسرائيل موافقتها على قرار مجلس الأمن الصادر يوم 22 أكتوبر بوقف القتال والتزمت مصر أيضا بهذا القرار، وظهر موشى ديان على شاشة التليفزيون الإسرائيلى باكيا وهو يقر بالهزيمة، واجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلى ليتخذ قرارا سريا باستغلال فرصة وقف إطلاق النار والتقدم نحو الغرب وتحديدا نحو منطقة الدفرسوار ومدينة السويس وذلك بهدف تغير النتائج النهائية للحرب، وكان القمر الصناعى الأمريكى قد رصد نقطة خالية من تمركز قوات الجيش الثالث وأهدت أمريكا هذه الصور لحليفتها إسرائيل، ولاح الأمل فى أعين صقورهم لا سيما الجنرال شارون الذى أوهمهم بقدرته على دخول السويس خلال أربع وعشرين ساعة، ولكن يبدو أنه قد نسى أن أبناء السويس بمقدروهم الدفاع عن مدينتهم، وبالفعل فشلت إسرائيل بعتادها وجنودها أن تقتحم المدينة الباسلة، ونجح أبطال المقاومة الشعبية فى تكبيد إسرائيل المزيد من الخسائر وأجبروها على الهروب منها فى 24 أكتوبر وهو التاريخ الذى تحدد فيما بعد ليكون عيدا قوميا للمحافظة، والتى صلى فيها الرئيس السادات صلاة عيد الفطر ليبين للعالم كله المعدات الإسرائيلية التى نجح أبطال السويس فى تدميرها، وترضخ إسرائيل فى نهاية المطاف إلى قرار إيقاف إطلاق النار، وتبكى جولدا مائير وهى تعلن هزيمة جيشها، ويقرر الكنيست تشكيل لجنة برئاسة "شيمون إجرانات" وهو قاضى فى المحكمة العليا وكان هدف هذه اللجنة هو التحقيق فيما حدث أثناء حرب الغفران، وكانوا قد أطلقوا على حرب أكتوبر هذا الاسم نظرا لنشوبها فى أقدس يوم عندهم وهو يوم الغفران أو بالعبرية "كيبور" ولما انتهت هذه اللجنة من عملها وضعت تقريرا جاء فيه على لسان قادة إسرائيل أن المصريين قد خدعونا ولم نتصور يوما أنهم سوف يحاولون عبور قناة السويس لاستحالة هذا الأمر ولم يخطر على بالنا أن الجندى المصرى لديه القدرة على صعود خط بارليف أو تدميره واعترف قادة جيش الدفاع بأنهم واجهوا كارثة حقيقة وأن أكبر مفاجأة لهم تمثلت فى هذا التخطيط البالغ الدقة والذى لم يترك شيئا للصدفة، وحملت لجنة إجرانات رئيس الأركان الإسرائيلى أليعازر مسئولية عدم تقدير الوضع وقررت عزله من منصبه وهو نفس ما حدث لالياهو زعيرا رئيس الاستخبارات العسكرية وقررت عزل مجموعة كبيرة من الضباط الذين هربوا من أرض المعركة أمام المصريين وتركوا أسلحتهم وأجهزة اللاسلكى الخاصة بهم والتى مكنت سلاح الإشارة المصرى من فك شفرات الاتصال بين قادة الجيش الإسرائيلى ومن ثم أصبحت معلومات تحرك وحداتهم العسكرية عند المصريين أولا بأول، واضطر موشى ديان للاستقالة من منصبه كوزير للدفاع معلنا تحمله المسئولية السياسية للهزيمة، وبعد سنوات كتب فى مذكراته يقول "إن إسرائيل كادت تنهار فى 73" وكتبت جولدا مائير فى مذكراتها التى نشرتها فى كتاب بعنوان "حياتى" لا شىء أقسى على نفسى من كتابة ما حدث فى أكتوبر فلم يكن ذلك حدثا عسكريا رهيبا فقط إنما كانت مأساة عاشت وسوف تعيش معى حتى الموت، ولقد وجدت نفسى فجأة أمام أعظم تهديد تعرضت له إسرائيل منذ إنشائها، وهكذا اعترف قادة إسرائيل بهزيمتهم وأعلنوا ذلك فى مذكراتهم ورغم ذلك فإن بعض شبابنا الجاهل يسير وراء إدعاءات هؤلاء الجبناء من أعداء مصر الذين ينكرون انتصارنا ويشككون فيه، أما الشباب الذين يكررون هذه الأكاذيب فهم كالقطيع ويبدو أن أحدهم لم يكلف نفسه مراجعة التاريخ وما كتبه قادة إسرائيل أنفسهم عن حرب أكتوبر والتى ستظل نصرا عظيما رغم كيد الجماعة الإرهابية.
آراء حرة
ملحمة أكتوبر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق