يقوم الوعى بالدور المهم وإلهام فى تكوين الشخصية الوطنية، والوعي هنا ليس المقصود به المعلومة أو الثقافة أو المعرفة أو المعايشة فقط، ولكن الوعي هو انصهار كل تلك العوامل والأساليب فى العقل، مما يشكل رؤية خاصة تساعد الفرد في التلقي والتحليل واتخاذ القرار، هنا يأخذ التعليم المكانة الأولى والأساسية فى تشكيل هذا الوعي وتلك الشخصية الوطنية، فالتعليم هو المعلومة والمعرفة والثقافة؛ لذا يصبح البوتقة التى تنصهر وتتشكل فيها الشخصية الوطنية، وهذا الانصهار وذاك التشكل يساهمان فى حالة توافق وطنى ويخلقان أرضية ممهدة لزراعة بذور الانتماء التى تؤتى ثمارها فى قابل الأيام، ومن خلال هذا المنهج التكوينى ينطلق الفرد للتلقى والمشاركة فى جميع مناحى الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما، وهذا هو الأهم، أن يكون هناك توافق وطنى وإنسانى بين أبناء الوطن المشاركين فى الفصل والمرحلة التعليمية، مما يخلق حالة إنسانية جمعية ووطنية تظل قابعة فى الضمير الجمعى المصرى طوال الوقت.
هنا لا بد من التطرق إلى حالة التعليم التقليدى السابقة منذ ثلاثة عقود، فمثلا على الرغم من قلة الإمكانات المادية لكن كان التعليم ينطلق من أرضية وطنية مشتركة تعزز الانتماء الوطنى المصرى والعربى، إضافة إلى العلاقات الإنسانية التى كانت تربط زملاء الدراسة بعلاقة حياتية تظل إلى المدى دليل الحب وعنوان الزمالة وذكريات الدراسة. فهل يقوم التعليم الآن بمثل هذا الدور التكوينى للشخصية الوطنية المصرية؟ لا أعتقد ذلك. ليس نتيجة للقصور المادى الذى لم يعد قادرا على استيعاب الأعداد المقبلة للتعليم، ولا لقصور المناهج على التطور الذى اجتاح العالم، مما يلزم معه مناهج متطورة تساير هذا التطور وذلك التغير، ولا لانصراف المعلم عن الدور التربوى الذى لا ينفصل عن الدور التعليمى البتة، ولا إسقاطًا لدور المدرسة التعليمى والتربوى لصالح المصالح الذاتية والشخصية للمعلم لكى يقوم بدور تلقينى فاقد للعلاقة المحترمة بين المعلم والتلميذ نتيجة للعلاقة المادية التى يتحول فيها الطالب إلى مانح للمعلم وليس العكس، فى الوقت الذى تتحول فيه العملية التعليمية إلى مهمة واحدة ووحيدة للطالب والأهل وهى الحصول على الشهادة التى لم تعد تعبر تعبيرًا حقيقيًا عن مستوى الطالب التعليمى أو التربوى. هنا فهذه العلاقة قد قضت على دور المدرسة تماما مما جعلها خاوية على عروشها طوال الوقت، مما يسقط ويعنى غياب التعليم بلا مبالغة، فاستيعاض المدرسة بالدروس الخصوصية تغيب معه العلاقات الإنسانية والمشاركة المجتمعية وتكوين الشخصية الاجتماعية السوية التى من خلالها تسقط كل الفوارق الطبقية والدينية والجهوية والقبلية، مما يشكل خطرًا حقيقيًا ليس على الشخصية الوطنية فحسب، ولكنه خطر على الوطن بكاملة، فتكوين الشخصية الوطنية عن طريق التعليم يعنى تهذيب مهم لكل الفوارق بكل أنواعها، بين الغنى والفقير، بين المسلم والمسيحى، بين ابن القرية وابن المدينة... إلخ. أما الطامة الكبرى فهى ما يسمى بالتعليم الأجنبى فى مصر وطن كل المصريين، لم نكتف بالمجتمعات المغلقة والخاصة التى تترفع على الاختلاط بالطبقات الأدنى، فانشأوا مجتمعاتهم الخاصة التى تولد التفرقة التى لا حدود لنتائجها السلبية والخطيرة، وأهمها التفرقة الطبقية، التى تخلق الحسد وتربى الحقد وتغذى الضغينة، فجاءوا بالتعليم الأجنبى حتى تسقط الشخصية الوطنية بمقوماتها المصرية والوطنية وحتى تتعمق الفوارق الطبقية، وحتى تتعدد الثقافات الأجنبية فتسقط الهوية المصرية الوطنية فنصبح بلا هوية وبلا تاريخ خاصة أن الهوية والتاريخ ومقومات الشخصية الوطنية هم القوة الناعمة التى يمتلكها الوطن على مدى التاريخ.
هل يمكن أن نتنبه إلى ما نحن فيه؟ هل يمكن أن تستوعب النتائج المقبلة للحالة التعليمية؟ نحن لسنا ضد التطوير التكنولوجى ولكن مع الحفاظ على الدور الوطنى والتكوينى للشخصية المصرية انتماءً وحبا وتوافقا بين أبناء مصر الوطن العزيز، مصر كل المصريين.