هل بوسع خبر لا يزيد عن بضعة أسطر يُعلن فوز شاعرة بجائزة نوبل للآداب أن يعيد للشعر قيمته في عالم بات متفننا ومتفانيا في قتل كل القيم النبيلة.. هل بوسع الجائزة الأكثر قيمة أن تعيد الأمل للشعراء في أن ثمة من ينظر إليهم ويدرك وجودهم على هذه الأرض.. هل في فوز لويز غلوك سلوى للشعراء القابضين على الجمر.. هل في فوزها تعزية للذين انتحروا عندما رأوا الموت ملاذا آمنا من الجهل والتجاهل والتهميش والإبعاد والاستعباد؟
بداية دعنا نسأل لماذا ينتحر الإنسان؟ هل لأنه أصبح واثقا من أن لا مكان لقدمه في هذا العالم.. هل لأن روحه أخف من ثقل العوز والفقر.. هل التهمت الوحدة والقهر كل المساحات الآمنة في الحياة فيقرر أحدنا أن يتخلص من هذا العبء؟ يفكر في الاحتماء بحفرة صغيرة محاطة بالحجارة من كل جانب بعيدا عن الأخبار الرديئة وفانتازيا التصريحات وفوضى الفهم والحواس والغباء.
هل تحرر المنتحرون عبر التاريخ من عبء الحياة الثقيل؟ هل غرف الدفن الضيقة المعتمة التي يسكونها الأن أكثر آمانا من عالمنا الفسيح والمشع بالشمس والضوء؟
في رأي أن المنتحرين لا يقدمون على هذا الفعل إلا لسببين: الأول: هو توحدهم الشديد مع فكرة الإيذاء البدني أو النفسي الذي وقع عليهم كثيرا وبلا هوادة أو رحمة فيصبح الأمر بالنسبة لهم اعتياديا ويصابون بالبلادة ومن ثم لا يشعرون بالخوف حين يؤذون أنفسهم أذى يقودهم إلى الموت.
الثاني: أن هؤلاء كافحوا طويلا من أجل مهمة ما تعنيهم وتمثل لهم كل شيء، حياة أو موت، وفي كل جولة، وعند كل محاولة يفشلون.. ويعلنون أنه لم يعد لديهم الوقت أو الطاقة للتفاهم مع هذا العالم الثرثار، المحشو بالكلام والضوضاء والقتلة والقتلى والحمقى والعباقرة واللصوص والمجرمين والضحايا من أجل شيء، ومن أجل لا شيء!
هل كان منير رمزي يستطيع مواصلة حياته والاشتغال على موهبته وشعره بدون تلك الفتاة التي أغرم بها غراما فادحا؟ بالنسبة له قرر أنه لن يستطيع، ومن ثم تخلص من حياته وترك لنا قصاصة صغيرة يقول فيها "أنا هارب". ما تركه "رمزي" من قصائد وأشعار لم يكن كافيا للحكم على كونه شاعرا كبيرا أم كهؤلاء الذين يجيئون ويروحون في هدوء وبلا أثر أو ذكرى.
إذًا ما الذي لفت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد لأن تضم كل ما تعرفه من سيرته وأشعاره في كتابها "مائة وخمسون شاعرا انتحروا في القرن العشرين"؟ الذي دفعها كما تقول في كتابها: إنه كتب قصائد حرة ومنثورة بالعربية في زمن مبكر جدا، أي في الأربعينات، وكان متأثُرا في ذلك على الأرجح بدراسته وقراءته الشعر الإنجليزي. تتسم قصائده برومنطيقية حادة وانشائية ساذجة غالبا، تخفف من سطحيتها بين الفينة والفينة بعض الصور الشعرية المفاجئة ذات المنحى السوريالي. تيمة الموت حاضرة في غالبية أشعاره، ومثلها الحب واليأس والكآبة والغربة وعناصر الطبيعة كالشمس والقمر والبحر والغيوم. " أطلق منير رمزي النار على نفسه في مايو 1945ونًشر ديوانه الوحيد عام 1997وعنوانه" بريق الرماد".
الشاعر السوداني عبدالرحيم أبوذكري الذي ضمته أيضا أنطولوجيا جمانة أحرق قصائده وأوراقه وقصاصاته ثم انتحر برمي نفسه من قمة مبنى أكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو عام 1989 بعد مروره بانهيارات عصبية ونوبات اكتئاب.
وتقول عنه الانطولوجيا: "لطالما كان شغوفا بماياكوفسكي، وقد زاوج في شعره بين عمق المعنى وبساطة التركيب اللغوي، وكان مشدودا إلى السماوات والكواكب والنجوم والفضاءات اللامحدودة التي شكلت بالنسبة إليه معادلا للحرية والانعتاق والتوق إلى التغيير. له ديوان وحيد صدر عام 1973 عنوانه "الرحيل في الليل".
الانتحار ليس حكرا على أحد وتختلف أسبابه من شخص لآخر. وأيضا لا تعد أشياء مثل البيئة والوضع الاقتصادي، والتحقق والشعور بالتقدير من قبل الغير أسبابا كافية لحماية أحد من الوقوع في إغواء الخلاص. فكما أن هناك أشخاص عاديون وفقراء ومقموعون وتعساء انتحروا هناك أيضا أغنياء وعلماء ومشاهير أقدموا على الانتحار، إذن، هو ليس بدعة، ورغم مأساويته لكنه يعطينا فكرة: الحياة مزعجة بشكل عام، وأن الإغواء الأخير للإنسان سيظل دائما وأبدا: خطوتان وتصير حرا.