الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التغير ناموس الوجود

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يقول «هيراقليطس» الفيلسوف اليونانى القديم: «إنك لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين؛ لأن مياهًا جديدة تغمرك باستمرار».
هذا معناه أنك إذا ألقيت بقدميك في النهر، ثم سحبتهما منه، وعدت وأدليت بهما فيه مرة أخرى فإنك تكون في هذه المرة الثانية قد لامست بقدميك مياهًا جديدة، لأن المياه التى ألقيت قدميك فيها في المرة الأولى قد مرقت وجرت بعيدًا، وبالتالى فأنت في المرة الثانية نزلت نهرًا جديدًا. من هنا جاءت مقولة «هيراقليطس»: «إنك لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين؛ لأن مياهًا جديدة تغمرك باستمرار».
آمن «هيراقليطس» بالصيرورة والتغير، ورأى أن الوجود في حالة تغير دائم.
إننى من جانبى أؤمن أن الثبات موات. وعلينا أن نميز بين معنيين للثبات، المعنى الأول مذموم، ونقصد بـه «التحجر»، «وعدم المرونة»، وهناك نوع ثان محمود، ونقصد به التمسك بالحق والصمود في مواجهة الباطل، فالثبات في ميدان القتال دفاعًا عن الوطن شجاعة وليس مواتًا، والثبات على الحق هو نبل وأصالة وليس مواتًا.
إننى ممن يؤمنون بأن التغيير ضرورة حياة، حين يكون نحو الأفضل والأرقى. إننى على استعداد لتغيير آرائى وأفكارى ومعتقداتى كلها، إذا تبين لي بالأدلة والبراهين أنها باطلة، هذا هو الشىء الثابت في حياتى.
لقد مررت بتجارب كثيرة وعميقة دفعتنى إلى تغيير آرائي وأفكارى ومواقفى، وصار «الشك» هو المنهج الذى من خلاله أنظر للأشياء والأشخاص والمواقف، أنظر إليها كأننى أراها لأول مرة، وصرت لا أقبل شيئًا على أنه صحيح إلا إذا ثبت لى أنه كذلك.
أتذكر أننى حين كنت صبيًا كان رأسى مزدحمًا بآراء وأفكار ومعتقدات غُرِسَت فيه من قِبَل محيطى العائلى، وكنت متعصبًا شديد التعصب لتلك الآراء والأفكار والمعتقدات. ولكن حدث حين كنت تلميذًا بالمدرسة «الثانوية» - كان عمرى حينئذ نحو 15 سنة – أن التحقت بـ «جماعة المكتبة» وهى مجموعة من التلاميذ تساعد أمين المكتبة في الاعتناء بمكتبة المدرسة، وتنظيم ما تحتويه من كتب. وكانت هذه هى المرة الأولى في حياتى التى أرى فيها هذا الكم الهائل من الكتب. بدأت أنظر إلى الكتب المصفوفة على الأرفف بدهشة وانبهار، امتدت يدى إلى كتاب، وكان بالمصادفة للمفكر المصرى «سلامة موسى»، وعنوانه: «هؤلاء علمونى». استأذنت أمين المكتبة في استعارته كي أقرأه بالبيت، وحين شرعت في قراءته، وتوغلت بين صفحاته، أصابنى الذهول من وضوح فكر المؤلف وجسارته في عرض آرائه، التى وجدتها «تزلزل»، ولا أقول «تخلخل» أفكارى ومعتقداتى التى كنت متشبثًا بها تشبثى بالحياة، والتى كنت على يقين بأنها صحيحة صحة مطلقة.
إن قراءتى لهذا الكتاب جعلتنى أدرك إنه بالفكر يحيا الإنسان، فمؤلف الكتاب كان قد فارق الحياة منذ سنوات، ومع ذلك شعرت من خلال عرضه لأفكاره بأنه حى ويفيض حيويةً، فأدركت أن الكتب تخلد أصحابها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أكسبتنى قراءة بقية مؤلفات «سلامة موسى» القدرة على التفكير الحر الجسور، ثم تواصلت قراءتى في اتجاه الفكر المستنير.
تكشف هذه التجربة عن أنه بـ«الفكر» تتبدل حياة المرء نحو الأفضل والأرقى، أو نحو الأسوأ والأدنى، يتوقف هذا أو ذاك على طبيعة الفكر الذى نتلقاه ونتعامل معه. فلو أننى قرأت كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب بدلًا من كتاب «هؤلاء علمونى» لسلامة موسى؛ لكنت اليوم – على الأرجح – عضوًا أو زعيمًا لجماعة متطرفة دينيًا.
ومن هنا تأتى أهمية الفكر التنويرى، وضرورة أن ينتبه المسئولون عن التعليم والإعلام إلى خطورة الأفكار المعتمة وخطر الفكر المضلل على عقول أبنائنا تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وعلى النشء بصفة عامة.