أخشى أن تعود بنا الأيام لنعلق كل مشاكلنا مرة أخرى على قضية الزيادة السكانية، نتذكر جيدا تلك النغمة التى سادت فى الثمانينيات، والتسعينيات، على لسان المسئولين من كل المستويات، بأن مشكلة التنمية والقضايا الاقتصادية مرهونة بالزيادة السكانية، لدرجة أن تحول الأمر لسخرية كبار المسئولين من أفراد الشعب، بعبارات مسيئة، وتركنا لُب القضية، والتى تتعلق بشمول محاور التنمية.
وعلى مدى سنوات خاضت الدولة حملات هى فى مضمونها «توعية»، لتنظيم الأسرة، قد تكون قد حققت نتائج بضبط نسبى لزيادة عدد السكان، خصوصًا مع ارتفاع نسبة التعليم والوعى، وبسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والغلاء، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الأزمة لم تنته.
ونتذكر جيدا حجم الدراسات التى تم إعدادها على حملات تنظيم الأسرة، خصوصا فى الريف والصعيد، وأن القضية تتطلب إلى جانب تنظيم الأسرة، خطط تنمية أكثر شمولا، توفر فرص عمل، وليس فقط مشروعات خدمية، مع التوظيف الأمثل للموارد البشرية، والتى حققت نجاحات واسعة فى دول أكثر منا كثافة، سكانية، وحولت الزيادة فى عدد السكان إلى طاقة إنتاجية، أو كما يقال «المحنة إلى منحة».
صحيح أن حملات تنظيم الأسرة بدأت من أوائل الستينيات، وفى السبعينيات، إلا أن الزخم الإعلامى والإعلانى كان أكثر فى الثمانينيات والتسعينيات، واستمر فى الألفية الثالثة، وإن هدأت فى السنوات الأخيرة، ولكن السؤال المهم، ماذا حققت هذه الحملات، وهل بالفعل كان لها مردود؟!
هناك شبه اتفاق على أن المردود لم يكن بحجم الطموحات، فما زالت ثقافة العديد من الناس بعيدة عن فكرة تنظيم الأسرة، بل خرجت أصوات دينية فى فترات طويلة أدخلت الأمر فى خانة التحريم، وظهر تيار مسيرته، ضد تيار الدولة، واعتلى فى فترات منابر المساجد، وربما الكنائس، ويقف موقفا مخالفا لموقف الدولة فيما يتعلق بتنظيم الأسرة.
فى منتصف الثمانينيات ومع تأسيس المجلس القومى للسكان برئاسة رئيس الجمهورية ليكون مسئولا عن مواجهة المشكلة السكانية، وكان يرأسه فى هذا الوقت الدكتور ماهر مهران، أجريت وقتها حوارا معه، حول أهداف المجلس وطموحاته، كان الرجل يأمل فى هذا المجلس أن يحدث نقلة نوعية، وأن مصر ستحافظ على معدل نمو سكانى أقل من معدل النمو الاقتصادى، بما يسهم فى تحسين مستويات المعيشة، إلا أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
حجم الإنفاق على حملات الدعاية وحملات التوعية فى نحو 40 عاما ضخم، وإن لم تكن هناك إحصائيات دقيقة، فبعض التقديرات تصل به إلى 3 مليارات جنيه، وهذا الرقم رغم أننى أرى أنه أقل كثيرا من الإنفاق الفعلى، ولا يتضمن الإنفاق على وسائل تنظيم الأسرة التى توفرها الدولة مجانا، أو مدعومة.
ولن أدخل فى جدل بشأن أوليات الإنفاق، على حملات لم تحقق نتائج، أو على أعمال تنمية، فرقم الـ3 مليارات أرى أنه رقم هزيل فى تكاليف التنمية وتأسيس المشروعات، لكن الأهم هو توجهات تلك الحملات، فقبل أسابيع دعيت لحضور حفل زفاف نجل رجل بسيط فى المنطقة التى أسكن فيها، وكانت المفاجأة أن «العروس» لم تكمل عامها الـ15، وأنها فى الترتيب الرابع بين أخوات وإخوة من أسرة تضم 11 فردا، لأب وأم.
وواضح أن استغرابى وتعجبى لم يكن له محل من الإعراب، حيث تبين أن هذا أمر عادى جدا، وأن فكرة أسرة من اثنين أو ثلاثة أو حتى أربعة أبناء، أمر مستهجن بين غالبية حضور هذا الحفل، مما يؤكد أن هناك شيئا ما خطأ طيلة هذه السنوات، فالعروس أقل من السن القانونية، وجميع من سبقوها من أخواتها وصديقاتها، وأهل قريتها، وعشرات القرى فى محيطها، على نفس المنوال، زواج دون السن، ويحملون أطفالا فى أعمار مختلفة، والأمهات أنفسهن فى سن الطفولة.
إذن لا بد من منطلق جديد كليا فى خطة الحكومة لتنظيم الأسرة، والتى تعتزم إطلاقها هذه الأيام، واللجنة التى تضم الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والدكتورة هالة زايد، وزيرة الصحة والسكان، وأسامة هيكل، وزير الدولة للإعلام، والدكتورة مايا مرسى، رئيس المجلس القومى للمرأة، مطالبة بنهج جديد فى الفكر والتفكير، ففعلا قضية السكان هى قضية محورية فى التوجه التنموى للدولة، كما تقول وزيرة التخطيط، ودور الإعلام مهم فى تنفيذ منظومة تنظيم الأسرة، ولكن ليس بنفس النهج القديم.
القضية تتطلب أن نصل إلى «بسمة» وعريسها «أحمد»، وأمثالهما، حتى لا تتكرر مأساة أمهاتهم وآبائهم، ونعود بعد عشرين عاما أخرى لتتكرر نفس الملاحظات، لا بد من وضع البدائل للتنمية البشرية وتوظيفها، وتنميتها، وتحويلها لقوى منتجة فى مشروعات إنتاجية حقيقية، مع وعى حقيقى بتنظيم الأسرة.