السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الاستثمار الأفضل في الطفولة المبكرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما الذي يقود الأبناء نحو النجاح والتميز؟ للحصول على إجابة شافية ومتكاملة لابد من مراجعة الأدوار التي يقوم بها كلا الوالدين المسؤولين الأولين عن تنشئة الأبناء.
هل قرأت لأطفالك قبل النوم عندما كانوا صغارًا؟ إذا قمت بذلك، فأنت تمنحهم ميزة على الأطفال الذين كان آباؤهم يعملون ليلا أو لا يهتمون بهذه العادة التي تساهم بعمق في تكوين الشخصية. قد تكون أسباب إهمال هذه العادة الجميلة يعود إلى عدم إتقان القراءة من طرف الوالدين رغم أن المطلوب فقط هو تعويد الطفل على الاستماع للقصص و الحكايات التي تحمل قيمة والتعود على اللغة والكلمات والأصوات. وقد يكون أيضا عدم وجود وقت كاف يسمح للوالدين بالقيام بهذا الدور الممتع لهما أيضا.
هل أنفقت أكثر على الخروج مع طفلك لتناول الوجبات السريعة أم على التجول واللعب في حديقة الحيوان؟ هل أنفقت أكثر على شراء الملابس أم على دروس الرسم و الغناء و الموسيقى؟ 
هل أنفقت أكثر على الدروس الخصوصية أم على الأنشطة الرياضية ؟
إذا فعلت هذه الأشياء فأنت تفعل الصواب. لقد استثمرت أفضل استثمار في مستقبل أطفالك و ازدهارهم كما تفعل أي أمٍ أو أبٍ لائقين. 
لنبدأ من البدايات التي أصبحت من البديهيات. الاستثمار في مستقبل الطفل يبدأ من اللحظة التي تحمل فيها الأم. وهذا يعني أن المشاكل إذا كانت موجودة بين الزوجين قبل ذلك فلابد أن تتوقف، وإلا فلا لوم ولا استغراب إذا لاحظنا أن الرضيع يعاني من العصبية والتشنج وهو مازال في الشهور الأولى من عمره. حينئذ إسألوا أنفسكم ماذا فعلتم تجاه طفلكم قبل تسعة أشهر من الآن.. وماذا أنتم فاعلون الآن؟!
هناك أخطاء شائعة لدى الآباء والأمهات الذين قليلا ما يتنبهون إلى كونهم القدوة الوحيدة التي يتابعها الطفل ويقلدها منذ ولادته. وغالبا ما يتمادى الوالدان في ارتكاب أخطائهما السلوكية واللغوية والمزاجية بسبب قلة الوعي لديهما بأهمية ضبط النفس وضرورة تصدير قدوة حسنة للطفل الوليد. وفي العالم الغربي –الذي قد لا يعجبنا في بعض طرقه التربوية- تقوم الدولة والمجتمع المدني والمحيط بدور حماية الطفل و تتدخل على الفور إذا كان أحد الأبوين "غير صالح" للمهمة سواء كان عنيفا أو مدمنا للكحول أو المخدرات أو يعاني من أي انحراف سلوكي أو مفتقد لمواصفات الأبوة أو الأمومة الحسنة.. لأنه ببساطة ليس كل شخص يستطيع أن يتزوج وينجب قادرا على تربية طفل على النحو السليم!
ومن الأخطاء الشائعة أنه غالبا عندما تثار قضية الاستثمار في مستقبل الأطفال يتم التفكير تلقائيا في السبل المالية التي تحقق لهم الاستقرار بحيث يحاول الوالدان العمل ساعات أطول وفي أكثر من مكان لزيادة فرص الادخار. غير أن علماء التربية يشددون على أن أفضل خطة استثمارية للأطفال هي أن يكون هناك أولا اتفاق وانسجام بين الزوجين وأن يشعر الطفل أنه يتربى في منزل من والدين اثنين لهما حضور متقارب في الوزن والاهتمام والقرارات وأن ينشأ الطفل في أسرة مستقرة ولا يخفي أحد الأبوين شيئا مهما يتعلق بالطفل عن الآخرأو لا ينفرد بقرار يخصه؛ وفي حالة وجود خلاف أو مشكلة لا تحل أمام الرضيع بدعوى أنه "مش فاهم حاجة"، وهذه الخلافات داخل الأسرة وأمام أنظار الطفل تفسر 32 ٪ من حالات انحراف الأطفال في سن مبكرة بحسب دراسة فرنسية. 
بصراحة تامة عندما كنت أمّا في بداية العشرينات من عمري لم أكن أدرك إلى أي مدى تؤثر التجارب التي يمر بها الأطفال والرعاية التي يتلقونها منذ الولادة وحتى سن الخامسة على بقية حياتهم. أما الآن فأصبحت أعلم وأنا جدّة أن دماغ الطفل يٌشكِل أكثر من مليون وصلة عصبية جديدة كل ثانية. وقد أصبحت الثقافة التربوية متاحة حاليا بشكل كبير وواسع ويكفي القيام ببحث بسيط من خلال مواقع الانترنت ليدرك الباحث أن البيئة الآمنة والمحفزة للأطفال والعلاقات المنسجمة بين الوالدين والرعاية ذات الجودة العالية من مقدمي الرعاية في مراحل الطفولة المبكرة لا تغير الطريقة التي تتطور بها أدمغة الأطفال فحسب بل تؤثر أيضًا على تعلمهم المستقبلي وصحتهم مدى الحياة بطرق لا تعد ولا تحصى.
قبل ثلاثين عامًا عندما كنت أربي أبنائي، كان من الممكن أن يعمل أحد الوالدين بينما يعتني الآخر بالأطفال الصغار وغالبا ما تتولى الأم هذه المهمة. وعندما اضطررت للعودة لعملي كان لزاما علي البحث عن حضانات تتوفر فيها جودة الرعاية وإلمام وخبرة بمتطلبات الطفولة المبكرة وكان الأمر صعبا ونادرا ومكلفا للغاية حيث كانت الحضانات محدودة وهي غالبا لسن رياض الأطفال وليس قبل ذلك. أما اليوم، فتعتمد معظم العائلات على دخلين لتغطية نفقاتها؛ وبالتالي، يتجه الوالدان إلى الحضانات في سن مبكرة وقد تواجدت هذه الخدمات بشكل أكبر وأفضل. غير أن الأمر المثالي لو توفرت هذه الحضانات بخدمات جيدة لرعاية الأطفال داخل الشركات ومؤسسات العمل نفسها بحيث تسمح للوالدين بالاطمئنان على الرضيع مع التركيز في أداء العمل بإتقان ودون تشويش. في فرنسا تشير الدراسة إلى أن 7 أطفال من كل 10 بعمر 5 سنوات وأقل لديهم الأم والأب يعملان معا خارج المنزل. وقد ساعدت برامج رعاية الطفولة المبكرة ذات الجودة العالية التي توفرها الشركات الفرنسية للعاملين لديها في تأمين هذا الجانب. وهذه الشركات من خلال توفير تلك الخدمات إنما "تضرب عصفورين بحجر واحد" -كما يقول المثل- حيث أنها هيأت الظروف الملائمة للعاملين للإنتاج والابتكار مع إيجاد حل دائم يوفر خدمات الطفولة المبكرة ذات جودة عالية ويساهم في الارتقاء بإمكانيات الأطفال والاستثمار في مستقبلهم. 
وتشير الدراسة الفرنسية إلى أن توفير حضانات داخل الشركات بها رعاية للأطفال وتعليم عالي الجودة غالبًا ما يكون في طليعة قرارات قبول أو رفض عرض عمل معين للموظفين. كما أنه عامل رئيسي في بقاء العاملين في شركاتهم على المدى الطويل.
مؤخرا، حضرت جلسة "أون لاين" في مؤتمر أقيم في مونبلييه بفرنسا وسعدت بالاستماع إلى قادة الأعمال يتحدثون عن الحلول المبتكرة لدعم احتياجات رعاية الأطفال لموظفيهم. واستمعت إلى مشاركة آباء من العاملين في الشركات الذين يقودون تغييرا حقيقيا في مجتمعاتهم من خلال مجموعة اقتراحات لتجويد الخدمات في الحضانات وهم على وعي كبير بأهميتها كاستثمار في مستقبل أطفالهم. كما استمعت إلى معلمين في مرحلة الطفولة المبكرة يدافعون عن زيادة الاستثمارات لتحسين خدمات الحضانات وتدريب مقدمي الخدمة بشكل مستمر على مناهج حديثة للطفولة المبكرة بشكل يسمح لهم بالبقاء في الوظائف التي يحبونها وتقديم الرعاية التي يعرفون أن الأطفال يستحقونها والعائلات بحاجة إليها. 
ولعل الرسالة الأهم التي خرجت بها من متابعتي للحوار الدائر في المؤتمر هو توفر الوعي لدى قادة الأعمال بما لا يقل عن الأولياء والمربين حول ضرورة إنفاق المزيد من الأموال على برامج الطفولة المبكرة ومرحلة ما قبل المدرسة وغيرها من برامج تيسير تلك الخدمات لأنها ستنعكس إيجابيا على رأس المال البشري وستعود بالفائدة على الجميع. وهذا ما نحتاجه حاليا في بلداننا النامية فأفضل استثمار على الإطلاق هو ذلك الذي يتم توجيهه للطفولة المبكرة وعندما تنخرط الشركات بشكل مؤسسي في هذا الدور العظيم فسيكون عائده كبير عليها أولا ثم على عامليها والمجتمع ككل.
olfa@aucegypt.edu