قُبَيل أن تُعلِن الشمس غروبها.. كنت أجلس على حافَّة بِئر في الحقل.. وإذا بى أسمع صوتَ خَشْخَشَة بالقرب منِّى (الخشخشة صوت الأشياء اليابسة إذا حك بعضها بعضا).. كان هذا الصوت يأتينى من بين أشجار مَزْرَعَة الجوافة.. أَتَجاهَل الصوت.. فيُعاوِد التكرار.. أنتَبِه ثم لا ألتَفِت.
ومن مسافة بعيدة أسمعُ صوتَ كلبٍ يَنْبَح.. فأرفع رأسى في اتِّجاهه.. فأراه يأتى مُسرعًا نحوى.. ثمَّ يقف بعيدًا عنى، ويستمر في نِباحِه.. وفجأةً يجلس ويَتوقَّف عن النِّباح.. لا أُعِيرُ الأمر اهتمامًا، وأُمْسِكُ بهاتفى.. ولكننى أسمع صوت الخشخشة من جديد.. فأذهب كى أَتَبيَّن ماذا هناك؟.. فأجِد أربعةً من الجِرَاءِ تلعب وتمرح (الجِرَاء جمع جَرْو، وهو الكلب الصغير).. وحينما شاهدتنى سكنت واستكانت تحت جِذْع شجرة وكأنها لم تر إنسانًا من قبل.. جلستُ أُشاهدها وألتَقِطُ لهاةبعضًا من الصور.. وفى أثناء ذلك ازدادت الكلبة نِباحًا.. نعم إنها كلبة؛ فهى أُمُّهُم من غير شكٍّ.. ولكن لا أدرى لماذا لم تقترب منى أكثر؟! وأين أبوهم؟!
انصرفتُ عنهم وعُدْتُ إلى حافَّةِ البئر.. ثم بدَأَتِ الشمس في المَغِيب رويدًا رويدًا.. ها هو ذا الليل يُسدِل سِتْرَه.. يُداهِمُنى الظلام ويَلوحُ القمر في الأُفُق.. هو الآن في طَوْرِ الأَحْدَب المتزايد؛ حيث يظهر مع اختفاء النهار ويستمر طوال الليل.
الحَقْل في أطراف القرية.. ولا أحد في المكان سواى.. بالنهار يُمكِنُنى أن أستمتع بمئات الأَفْدِنَة الخضراء التى تمتَدُّ إلى منتهى بَصَرِى.. أَمَا وقد حَلَّ الليل فلن أُشاهِد إلا الظلام، ولن أُناجِى غير السكون.
الكلبة لاتزال تَنْبَح.. أَهُمُّ بالانصراف؛ فتتَأَهَّب.. أبْتَعِدُ شيئًا فشيئًا فتقترِب من صغارها شيئًا فشيئًا حتى أصبحَتْ في مكانى.. ثم ظَلَّتْ تنظُر إليّى وهى تنبح حتى غَيَّبَنى الظلام عنها.
«٢»
في الليل أخلُد إلى النوم؛ فأخلد إلى الذكريات، ثم يتشعب بى الفكر إلى عالم من الخيال، ينسج فكرى فيه حكايات أسطورية أكون بطلها، أعيش فيها كأنها حقيقة، ولأننى أشعر فيها باللذة والسعادة، لا أستطيع منع نفسي من التمادى في عيْشِها، وأجدُنى أغرق فيها أكثر فأكثر، وفى أثنائها إذا ما انقطعت عنها بشىء ما، أحاول جاهدًا أن أعود إليها سريعًا.
إنه شىء شبيه بأحلام اليقظة، ولكنه يفوقها خيالًا، فما أتخيله ليس هروبًا من واقع، كما أننى لا أتمنى تحقيقه، فقط أتخيله من أجل التخيّل، ثم بعد أن أعيش في هذا العالم بعضًا من الوقت، أشعر بأننى عشت في عالم من الجمال المطلق.
هذا العالم الذى أصفه لا أعيش فيه كثيرًا، ولكن حينما أعيشه؛ أستفيق منه راضيًا باسمًا، مقبلًا على الحياة أكثر.
في هذه الليلة لن أعيش في هذا العالم، سأخلد من فورى إلى النوم، فلربما عشته في منامي، وعندما أستيقظ أقول عنه: أضغاث أحلام وما أنا بتأويل الأحلام من العالِمين.
«٣»
في الصَّباح أحاول أن أنهضَ، لا أستطيع.. رُوحُى مُثْقلَةٌ بِشَجَن مجهول.. أستسلمُ للنوم.. يمرُّ قليلٌ من الوقت.. أحاولُ النهوضَ مرة أخرى، تَجُولُ بخاطرِى بعضُ المواقف؛ فأبتسم، ثم أنهض.. أسَوِّي فنجانًا من القهوة على نارٍ هادئة.. أجلسُ أرْتَشِفُها على مَهَلٍ.. هكذا القهوةُ تَنْضُجُ على مهل وتُحْتَسَى على مهل.. أناملُ صوتٍ ما تُداعبُ مخيِّلَتَى؛ فأبتسمُ من عُذوبة الهمْسِ، وترتسِمُ على ملامِحِى علاماتُ السعادة والرضا.. ثم أشربُ قهوتى حتى ثُمالَتها..