ظنت المطلقات أنهن بحصولهن على ورقة "فك الارتباط" سيتخلصن من العواصف الزوجية و ينعمن ببعض الهدوء والسكينة مع حقوق يكفلها القانون بعد حياة زوجية شابتها المنغصات وكثرة المشاكل وانتهت بالطلاق ولا يتخيلن أن حجم المشاكل بعد الطلاق أكثر بكثير من قبله! وباستثناء قلة من الرجال المحترمين، فما يحدث هو العكس تماما حيث تجد المطلقات أنفسهن في مواجهة ظلم أكبر لأن عددا كبيرا من الرجال المطلقين يتهربون من مسؤولياتهم تجاه أبناء المطلقة ربما أكثر من أوقات الخلاف ويتقاعسون عن دفع النفقة التي هي غالبا لا تسمن ولا تغني من جوع لأنها لوحدها غير كافية للإنفاق على المأكل والملبس والتعليم والمواصلات والعلاج ومتطلبات المسكن. وتتجه علاقة المطلقين في الغالب نحو مشاعر الكراهية أو على الأصح العناد الذي يولد تحجر القلوب مهما كان الزوج/ الزوجة يحظيان بمستوى تعليمي وثقافي جيد، لذلك فغالبا ما يطلق الأب أبناءه أيضا يوم طلاقه من أمهم نكاية فيها ورغبة في طي أي صفحة تذكره بتلك الزوجة حتى لو كان أبناؤه أنفسهم. وعند لجوء المطلقة للقانون يقرر بعض الرجال الإمعان في الانتقام بجعل المرأة تكره حياتها و"اليوم الذي ولدتها أمها" من الجري واللهاث وراء حقها وإذلالها طلبا لحق أبنائها وقد تفضل في الأخير أن تتسامح في حقها أو ترضخ للأمر الواقع كما أراد لها طليقها بالضبط.
لكن الحكومة وضعت حدا لهذه المآسي التي تعيشها بعض النساء وأنقذتهن من الإذلال لأن المرأة التي تختار أن تربي أبناءها بين أحضانها تستحق أن تنعم بالكرامة. وبهذه الرؤية ولد صندوق تأمين الأسرة كإنقاذ حقيقي للمطلقات وأبنائهن حيث يلعب دورا اجتماعيا مهما في دعم وحماية النساء اللاتي يتخلى عنهن العائل سواء بالهجر أو الطلاق دون دفع النفقة المستحقة. ويتبع الصندوق بنك ناصر الاجتماعي- الذي يعد بدوره أول بنك في المنطقة العربية يحمل رسالة مهمة منذ تاريخ إنشائه عام 1971 وهي توسيع قاعدة التكافل الاجتماعي- وتتوافق أهدافه وفلسفته مع سلطة الإشراف عليه وهي وزارة التضامن الاجتماعي التي تتولى أدوار الحماية والرعاية والتنمية داخل المجتمع وتأتي النساء على رأس قائمة الفئات التي تحتاج لتلك الأدوار.
لذلك فإن الدولة وفي سبيل ضمان سرعة تنفيذ الأحكام للنفقات الشهرية جعلت صندوق تأمين الأسرة يضمن سرعة تنفيذ تلك الأحكام بالنفقة الشهرية لصالح المحكوم لصالحهم من النساء والأبناء ويصرف 500 جنيه شهريا دون انتظار تحصيل المبلغ من المحكوم ضده ويتولى الصندوق تحصيل قيمة الحكم بالكامل وحال تحصيله تستحقه النساء والأبناء كاملا. كما وفرت هذه الآلية تسهيل عملية الصرف من خلال ماكينات الصرف الآلي لبنك ناصر أو البنوك الأخرى، أو عن طريق خدمات التليفون المحمول من خلال كافة فروع شركات المحمول. وهذه التسهيلات تصب في الهدف الأعم والأشمل وهو توفير الحماية للأسرة والتيسير عليها من خلال دخل يضمن لها الكرامة الانسانية كما تشعر المطلقات بأن الدولة متضامنة معها في ظروفها الصعبة وحريصة على المصلحة الفضلى خاصة للأطفال الذين هم ضحايا التفكك الأسري. وقد صرف صندوق النفقة في شهر أغسطس الماضي فقط ما قيمته 67 مليون جنيه تقريبا كنفقة للمستحقين البالغ عددهم 395 ألف مستفيد بأحكام قضائية. أما إجمالي ما تم صرفه خلال العام المالي 2019-2020 فيبلغ 752 مليون جنيه للمستحقين للنفقة. غير خاف على أحد أن معدلات الطلاق تتجه للارتفاع في العالم كله وليس في مصر فقط وقد سجل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 198 ألف حالة طلاق في عام 2016 بينما بلغت عقود الزواج 909 ألف و 881 عقدا. وهي معدلات طبيعية مقارنة بالمعدلات العالمية، وإن كانت مرتفعة فيما يخص الطلاق عن السنة التي سبقتها في مصر بنسبة 3.2 % ومنخفضة فيما يخص الزواج بنسبة 2.8%.
وفي محاولة للتسريع بتنفيذ أحكام النفقة ووضع حد للتحايل من البعض بهدف التهرب من الدفع، وافق مجلس النواب في أكتوبر العام الماضي على قرار رئيس الوزراء بإدخال تعديل قانوني يتضمن تشديد العقوبات بشأن الامتناع عن دفع نفقة الزوجة لتصل إلى الحبس سنة مع منع المحكوم عليه من التعامل مع الهيئات الحكومية وكافة الجهات التي تؤدي خدمات ومرافق عامة إلا بعد تنفيذ حكم النفقة الصادر ضده. وهذا قد يترتب عليه تقييد حريته وتعليق أي خدمات كان يحصل عليها بما في ذلك الخدمات التي تقدمها الدولة لمحدودي ومتوسطي الدخل كالاشتراك في وحدات الإسكان الاجتماعي أو امتناع البنوك عن إقراض أموال أو إدراج الإسم على وحدات تنفيذ الأحكام الجنائية. ولم تلجأ الحكومة لهذا التعديل إلا مضطرة حيث لا يسعدها تقييد حرية شخص معين كما ليس من أهدافها تعليق خدمات له ولكنه طريق فٌرض عليها أن تسلكه بهدف استمرارية الصندوق في أداء مهامه ووضع حد لمعاناة حقيقية تعيشها آلاف الأمهات المطلقات والمهجورات بين أروقة المحاكم للحصول على نفقة أطفالهن.
ولا شك أننا إذا فتحنا ملفات الخلافات الزوجية فسنرى العجائب العٌجاب حول زوجات يتعرضن لأشد أنواع العذاب والإذلال بسبب رفض أزواجهن أداء واجبهن ودفع المستحقات اللازمة لهن. وقد يعترض البعض من الأزواج على روايتي ويستعرضون قضايا هم أنفسهم من يعانون فيها و يتعرضون للإذلال وليس الزوجات، من ذلك استخدام تحريات غير دقيقة وشهود زور للحصول على أحكام بالنفقة لا تتناسب مع الدخول الحقيقية للأزواج.. وبعض الأحكام هي بالفعل تتجاوز تسعين في المائة من دخول الأزواج بعد الطلاق كما أن بعض الزوجات يرفضن تحمل أي نفقات للأبناء برغم مشاركتهن لذلك قبل الانفصال أو أنهن يعمدن لإدخال الأبناء مدارس أجنبية بمصروفات لا يقدر عليها الآباء خاصة إذا كانت لديهم أسرة جديدة ينفقون عليها.
سأرد ردا مقتضبا .. الشاذ لا يقاس عليه فالغالبية العظمى من النساء في المحاكم الباحثات عن الطلاق هن الطرف الأضعف في المعادلة. يكفي أن نورد في هذا السياق إحصائية للمجلس القومي للمرأة تشير إلى إن نسبة دعاوى النفقة تزيد على 70% من إجمالى الدعاوى المقدمة أمام محاكم الأسرة على مستوى الجمهورية، كما هو الشأن بالنسبة للشكاوى التي ترد إلى مكتب شكاوى المرأة بالمجلس حيث تتصدر النفقة القائمة، تليها الرؤية، ثم التطليق للضرر، ثم مكاتب تسوية المنازعات، وأخيراً الخلع.
ولكن ولأن الهدف الأسمى من وراء تشديد الحكومة للعقوبات المفروضة على الممتنعين عن سداد النفقة هو تأمين الأمهات وأبنائهن من التشرد والعوز فإن الحكومة أطلقت مبادرة منذ يومين شديدة الأهمية أعلنت عنها وزيرة التضامن ورئيسة مجلس إدارة بنك ناصر وتتمثل في إلغاء ما يسمى بـ"القائمة السوداء" التي تضم الأشخاص الذين لا يسددون النفقة في حالة الطلاق وعليهم مديونية لصالح الأبناء، وتشترط المبادرة سداد المديونية والانتظام في دفع النفقة. وقد استقبلها مدينو النفقة الصادر بحقهم الأحكام بترحيب شديد لأنها فتحت لهم مجال التصالح بمجرد سدادهم للنفقة و ما تخلد بذمتهم من متأخرات كما أنها سترحمهم من أحكام الحبس وما يترتب عليها من تداعيات على عملهم وسمعتهم. وفي هذا الإطار، يؤكد محمد عشماوي نائب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لبنك ناصر في تصريحات له أنه سيتم إلغاء حظر التعامل فيما يخص معاملاتهم داخل القطاع المصرفى والتصالح في جميع القضايا الجنائية المرفوعة ضدهم بمجرد سداد النفقة وكيف أن أهمية هذه المبادرة تكمن في كونها فرصة لسداد المديونية مقابل أنهم سيعودون لحياتهم الطبيعية ونشاطهم الاقتصادي و بإمكانهم الاستفادة من التمويلات البنكية أو الحصول على قروض شخصية أو استهلاكية.
أخيرا، لابد من التعريج على المشكلة الأصلية للنفقة وهي الطلاق والتي تستدعي نشر الوعي المجتمعي بعواقبه وأضراره، وما ينتج عنه من تشتيت للأسرة، وانعكاسات سلبية على الأبناء مثل الحزن والعزلة والعدوانية واضطرابات النوم والاكتئاب، ، وتدني المستوى الدراسي، وهنا يأتي دور المثقفين والمصلحين والإعلاميين، والمجتمع المدني الذي يحتاج التركيز على هذه القضايا، ونشر الوعي، لتعزيز الاستقرار الأسري في المجتمع. كما يتطلب الأمر إعداد المقبلين على الزواج ليحسنوا اختيار الشريك، ثقافياً ومادياً واجتماعياً، وأن يعلموا أن الحياة الزوجية حقوق وواجبات، وأن يتحملوا مسؤوليتهم على أكمل وجه، ليبنوا حياة أسرية سعيدة. أما إذا وصلت الحياة الزوجية إلى طريق مسدود "فأبغض الحلال عند الله الطلاق" وهنا تدخل صانعي السياسات و المشرع مطلوبة في كل وقت لتحقيق المصلحة الفضلى للأسرة والأبناء..وهذا من الممكن جدا أن يتحقق بدون حتى تدخل من أي طرف خارجي عن العلاقة .. فقط إذا تنازل كل طرف عن بعض الأنانية الكريهة المضادة للحياة المشتركة وفكرة التعاون على السراء والضراء!
olfa@aucegypt.edu