فى رحلة المغربى ابن بطوطة، أشهر الرحالة وأكثرهم ترحالا بين جنبات العالم القديم، والمعروفة بـ تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
هو محمد بن عبد الله بن محمد اللواتى الطنجى المعروف بابن بطوطة. ولد فى طنجة عام 703 هـ/ 24 فبراير عام 1304، وتوفى فيها عام 779 هـ/ 1377. قرر وهو فى الثانية والعشرين من عمره الخروج فى رحلة طويلة لزيارة أقطار العالم المختلفة. فسافر من طنجة سنة 725 هـ وطاف بلاد المغرب ومصر والحبشة والشام والحجاز وتهامة ونجد والعراق وبلاد فارس واليمن وعمان والبحرين والأناضول والقرم وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين وبلاد التتار وأواسط أفريقيا.
ولما عاد إلى بلاده فى المغرب الأقصى أخيرا بعد نحو 27 عاما، خدم ابن بطوطة السلطان أبى عنان من ملوك بنى مرين، وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزى الكلبى بمدينة فاس سنة 756 هـ وسماها تحفة النظار، والتى تعتبر واحدة من أشهر كتب الرحلات فى تاريخ الإنسانية.
جعل ابن بطوطة من آسيا الصغرى (تركيا حاليا) أحد أهداف رحلته الرئيسية بما أنها خلال ذلك الوقت كانت محكومة من قبل إمارات تركمانية عدة، من بينها الإمارة العثمانية. وقد انتقل ابن بطوطة إلى تلك المنطقة بعد رحلته الأولى فى المشرق العربى التى انتهت بزيارته مكة المكرمة. ففى عام 1332، سافر الرحالة المغربى من الحجاز إلى مصر، ومنها إلى الشام. ومن ميناء اللاذقية شمال سوريا، ركب البحر إلى مدينة سينوب على الشواطئ الجنوبية لتركيا.
كان نزول ابن بطوطة شواطئ آسيا الصغرى إيذانا ببدء رحلته وسط العالم التركمانى الذى يمكن اعتباره الشكل الأول للدولة العثمانية لاحقا. وكان أول ما لفت نظر رحالتنا فور وصوله طوائف الآخية الفتيان، وهى جماعات مسلمة كونها التركمان على غرار جماعات الفتوة العربية الشهيرة التى كان مهمتها حفظ الأمن داخل المدن الإسلامية، والجهاد. وقد لعب هؤلاء الآخية دورا بارزا فى تأسيس الإمارة العثمانية على يد عثمان الأول، إلى حد أن الأخير كان يعتبر نفسه واحدا منهم.
كتب ابن بطوطة عن أعضاء تلك الفتوة التركية: «وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية فى كل بلد ومدينة وقرية، والأخى عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هى الفتوة أيضًا، ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي». ومسألة الغناء والرقص التى لا حظها ابن بطوطة، وكذلك شرب مخدر الحشيش بكثافة داخل التكايا وزوايا الآخية الفتيان، تعكس ظاهرة تفشى ممارسة الرقص وشرب الحشيش داخل العالم العثمانى لاحقا، باعتبار تلك الممارسات جزءا من الإيمان الصوفى للعثمانيين، ما سيستمر معهم حتى سقوط السلطنة العثمانية.
كانت الملاحظة الثانية التى كتبها ابن بطوطة فى رحلته عن العثمانيين الأوائل، عدم ممارستهم لمسألة النهى عن المنكر، المأمور بها فى شريعة الإسلام. فعندما زار الإمارة التى يحكمها الأمير التركمانى محمد جلبى كتب: «وأهل هذه المدينة لا يُغَيِّرون المنكر؛ بل كذلك أهل هذا الإقليم كله، وهم يشترون الجوارى الروميات الحسان ويتركونهن للفساد، وكل واحدة عليها وظيفة لمالكها تؤديه له، وسمعت هنالك أن الجوارى يدخلن الحمام مع الرجال، فمن أراد الفساد فعل ذلك بالحمام من غير مُنْكِر عليه، وذُكِرَ لى أن القاضى بها له جَوَارٍ على هذه الصورة».
ظاهرة غياب النهى عن المنكر تلك، ظلت شائعة طوال القرون اللاحقة عن الدولة العثمانية، وهو ما لاحظه مؤرخون غير ابن بطوطة، مثل ابن خلدون فى كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر، وكذلك تقى الدين المقريزى فى كتابه المقفى الكبير، عندما أراد الترجمة للسلطان العثمانى بايزيد الثاني. وسوف يجبر الأتراك على الانتظار إلى بداية القرن الـ 17 الميلادي، عندما ستنشأ أخيرا جماعة سلفية تدعى قاضى زاده، حملت على عاتقها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى العاصمة العثمانية إسطنبول، والتى أصبحت توصف بالمدينة الماجنة نتيجة سياسات آل عثمان المتحررة والتى ورثوها من التركمان الذين زارهم ابن بطوطة قبل قرون.
كما رصد ابن بطوطة، وهو فى إمارة بركى التى حكمها الأمير التركمانى محمد بن آيدين ما يمكن نعته بأصول الدوشرمة التى صارت ديدن العثمانيين فى عصر تأسيس دولتهم، وهى النظام الذى قضى بخطف الصبيان المسيحيين من أنحاء الأناضول واليونان والبلقان وإجبارهم على اعتناق الإسلام، ثم تدريبهم عسكريا ليصبحوا خدما مخلصين للسلالة التركية الحاكمة فحسب.
فحين دخل ابن بطوطة بلاط محمد بن آيدين رأى: من خدامه نحو عشرين، صُوَرُهُم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة مُرْسَلة وألوانهم ساطعة البياض مُشْرَبة بحمرة، فقلت: ما هذه الصور الحسان؟ فقيل لى: هؤلاء فتيان روميون». وصورة هؤلاء تتطابق مع صورة عبيد الدوشرمة الذين خدموا سلاطين آل عثمان فى قصرهم الشهير طوب قابى بإسطنبول.
كان أبرز ما لاحظه ابن بطوطة حول بلاط الأمير أورخان، تلك السلطة الكبيرة التى تمتعت بها زوجته بيون خاتون. فعندما دخل رحالتنا مدينة يزنيك من بلاد الإمارة العثمانية، تجده يقول: «لا يسكن بها إلا أناس قليلون من خدام السلطان، وبها زوجته بيون خاتون، وهى الحاكمة عليهم». أليس فى هذا ما يدل على أن العثمانيين تركوا منذ وقت باكر بعض أمور القيادة إلى نسائهم، وهو ما بلغ ذروته فى منتصف القرن الـ 16 عندما أصبحت السلطانة خرم (روكسلانا) هى الآمرة الناهية فى دولة سليمان القانونى، السلطان العثمانى الأشهر على الإطلاق، فاتحة الباب لعصر سلطنة الحريم الذى ستتناوب خلاله بعض الجوارى على احتكار السلطة دون أبناءهم من السلاطين الأطفال وضعاف الشخصية، بله وأحيانا المجانين.