قبل سنوات ليست ببعيدة عندما توجهت إلى منطقتى إسطبل عنتر والدويقة، في مهمة صحفية لإجراء تحقيق عن معاناة ساكنى تلك المناطق؛ كان الانطباع الذى خرجت به؛ إن عدم الاقتراب من هذا الملف وتجاهله تمامًا ربما هو الحل الأمثل والأقل تكلفة بالنسبة للحكومة.
فنقل كل تلك الآلاف من البشر إلى أماكن آمنة يعنى مئات الملايين من الجنيهات لتشييد أحياء سكنية جديدة بكل ما تحتاجه من مرافق وخدمات.
الأمر ذاته كان بالنسبة لتلك الغابات الحجرية التى كنا نتفاجأ بظهورها بوتيرة متسارعة داخل أحياء وشوارع المدن الكبرى وفى القلب منها القاهرة والجيزة؛ كان من شبه المستحيل التصور أى إمكانية لمواجهة تلك الظاهرة المتوحشة التى افترست جمال شوارع وأحياء عاصمة المعز، فثمة تحالف متين بين مافيا الفساد داخل المحليات التى تضم جيشًا جرارًا من الموظفين معدومى الضمير، ومافيا المقاولين وتجار ولصوص الأراضى الذين باتوا يمثلون أباطرة البناء العشوائى في مصر بلا منازع.
جاحد وأحمق كل من ينكر على دولة الثلاثين من يونيو شجاعتها لفتح هذه الملفات الأكثر تعقيدًا والتى استسلمنا جميعًا لفكرة استحالة الاقتراب منها.
بلا رجعة انتهى ملف المناطق العشوائية بمشروعات عملاقة مثل حى الأسمرات وغيط العنب، وعلى نفس الطريق يمضى ملف البناء العشوائى بتطبيق قانون التصالح لبعض المبانى المخالفة؛ غير أنه يبقى الأكثر صعوبة وتعقيدًا فثمة أطراف أخرى تتعامل معها الحكومة غير المواطن الذى ذهب لشراء وحدة سكنية في عقار لم يعرف أنه مخالف.
الإحصاءات الرسمية تتحدث عن 2 مليون عقار مخالف منهم 10% فقط في محافظتى القاهرة والجيزة (209 آلاف عقار)، ويشتمل هذا العدد الهائل على 1.7 مليون وحدة سكنية مخالفة، 396.87 ألف طابق مخالف، وتتعدد أشكال وأنواع المخالفات بين مخالفة تغيير الاستخدام مثل التغيير من سكنى لتجارى أو إدارى، عدم المطابقة للاشتراطات التخطيطية والبنائية السارية، ومخالفة الرسومات المعمارية والإنشائية للترخيص الصادر، وتعلية أدوار مخالفة بعقار مرخص بالمخالفة لرخصة البناء، والبروز والتعدى على خطوط التنظيم، ومخالفات البناء على أملاك الدولة.
عمليًا يصعب على المواطن الراغب في امتلاك وحدة سكنية علمه بارتكاب مالك العقار والمقاول كل تلك المخالفات اللهم مخالفة الأدوار المسموح بها في الترخيص، ورغم أن قانون التصالح لم ينص صراحةً على إلزام صاحب العقار أو المقاول بتقديم طلبات التصالح، تاركًا الأمر مفتوحًا ليشمل أصحاب الوحدات السكنية، إلا أن الأوراق والمستندات المطلوبة لتقديم طلب التصالح لا يمكن للمواطن العادى مالك الوحدة توفيرها سواءً منفردًا أو حتى بالاشتراك مع جيرانه في العقار المخالف ذلك أن بعضها ليس موجودًا سوى بحوزة مالك العقار الأصلى أو المقاول علاوة على الحى أو الوحدة المحلية منها الرسومات الهندسية الأصلية للعقار والتى أصدرتها المحليات برفقة ترخيص المبانى.
أضف إلى ذلك أن بعض الأوراق والمستندات المطلوبة مثل تقرير هندسى يثبت تاريخ وطبيعة المخالفة وآخر يفيد سلامة العقار من الناحية الإنشائية وثالث بالرسم الهندسى القائم فعليًا، ناهيك عن صورة للعقار بالقمر الصناعى يتطلب استخراجها مبالغ مالية باهظة خاصة إذا علمنا أن المكاتب الاستشارية التى ستعتمد جزءًا من هذه الأوراق باتت تستغل الموقف وتطلب مقابلًا ماديًا يصل إلى عدة آلاف من الجنيهات.
صحيح أن الحكومة قد أعلنت أن مسئولية تقديم طلب التصالح تقع بالأساس على عاتق مالك العقار إلا أنها لم تعف سكان الوحدات من تقديم طلب التصالح حال تهرب مرتكبى المخالفة الأصليين.
المحليات تملك كافة المعلومات الخاصة بأباطرة البناء العشوائى من ملاك العقارات والمقاولين وتستطيع بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الوصول إليهم ببساطة والاعتماد على أن يقوم قاطن الوحدة بالإبلاغ عن صاحب العقار أو المقاول ليس كافيا فإما أن هذا المواطن قد انقطعت به السبل مع مالك العقار الأصلى، وإما أنه يخشى الإقدام على هذه الخطوة بسبب ما قد يتعرض له من تهديد من المالك الأصلى والمقاول وهذا ما رصدته شخصيًا مع سكان مناطق كفيصل وحدائق القبة يعيش بينهم الملاك الأصليون والمقاولون.
تستطيع الحكومة التصالح مع قاطنى الوحدات السكنية بتحملهم فقط تكلفة توفير المرافق بشكل قانونى وتتولى الإدارات الهندسية في المحليات إعداد تقارير فنية بالسلامة الإنشائية ومراجعة الحالة التى عليها المبنى مقارنة بالرسم الهندسى الأصلى الموجود لديها على أن تقوم الحكومة بأجهزتها بمهمة ملاحقة ملاك العقارات والمقاولين وإجبارهم على دفع الرسوم الفعلية بل وتحمل كافة تكاليف إصدار أى أوراق أو مستندات.