يظهر الأب وهو على فراش موته وحوله إبنيه يبكيانه، ويُنصتان إليه بصمتٍ بالغ، فلربما كانت هذه الأصوات الهزيلة التي تخرج من فم أبيهما هي آخر ما يسمعانه، وبالفعل قال لهم الرجل كلمته وصمت الى الأبد. لقد كانت لفظة "الحُبْ " هي آخر ما قاله الأب لإبنيه.
جال في خاطريهما وهما يُشيعانه إلى مَثواه الأخير أحاديثه عن الحُبْ والألفة.. كان الأب دائما يذكُر لهما مقوله أن أبيهم آدم وأمهم حواء تجردا من كل شيء حين هبطا إلى الأرض ولم يصطحبا معهما إلا الحُب، ومازال جَرسْ الكلمات في آذانيهما: "الحُبْ من الجنة".. مرت الأيام واتفق الأخوان على تقسيم منزلهما مناصفة حتي يستقل كلٌ منهما ببيت يستطيع أن يتزوج فيه ويقيم أسرته.
تقاسما كل شيءٍ مناصفة ولم يبق إلا شجرة الجميز الضخمة التي أراد الله أن تكون أمام مُنتصف البيت الكبير تماماً، فبقيت على حالها في رمزية تُشير إلى الحُبْ الذي يربط الشقيقين معاً. مرت الأيام وأصبح لكل منهما ذرية وكان يطيب لأولادهما أن يلعبوا في ظل هذه الشجرة العملاقة، يتسلقونها ويأكلون من ثمارها. تصادف أن تشاجر الأطفال حول تقسيم الثمار، وتضاربوا، رجع كل منهم إلى بيته، فما كان من زوجة الأكبر إلا انها أثارت حفيظة زوجها على أخيه وأبناء أخيه، حاول الأصغر أن يهدئ من روع أخيه وأن يوضح له أن الأمر لا يعدو عن كونه مشاجرات أطفال، وأنهم سوف يعودون لسابق عهدهم، كان الغضب قد تمكن من الأكبر الذي صار كالمجنون يلوح بيده تارة ويصرخ في وجه أخيه تارة أخرى. حاول الأصغر استيعاب الأمور لكنه تلاسن مع أخيه في نهاية المطاف . اشتد الحِدام بين الأخوين وارتضى الطرفان أن يقطعا الشجرة حتي يستريحا من المشاكل اليومية. رغم أن الأطفال الذين قامت على إثر مشاجراتهم المشاحنة بين الأخوين، هم أنفسهم كانوا يبكون ويرجون من كلا الأبوين أن لا يقطعا الشجرة، ولكن هيهات سبق السيف العزل.
وبالفعل اقتطعا الشجرة ظناً منهما أنهما بهذا سوف يستريحان من وجبة الصراع اليومي الذي تديرانه زوجة كلٍ منهما من وراء ستار، وبأيدي اطفاليهما معاً.. كان حزن أطفال كلا البيتين شديداً لقطع الشجرة وظلا بأفكار الصغار كل يوم يسقيان بقايا الجذر المدفون في الأرض بالماء. تأثر الأخوَان بالحزن الذي عمَّ على أطفاليهما بسبب اقتطاع هذه الشجرة التي كان يستظل بها الصغار ويتسلقونها ويأكلون من ثمارها.. وكم كانت فرحتهم غامرة حينما وجدوا بُرعمين جديدين صغيرين ينموان حول الجذر القديم، استشعروا أن الله عوضهم خيراً وبالفعل نمت شجرتان متجاورتان، تشاكس الأطفال مرة أخرى حول الشجرتين وصل الخلاف إلى أمهاتهم، واللتان بدورهما أشعلا الصراع من جديد مع الأخوين. لكن هذه المرة إتفق الأخوان على أن يقتسما الشجرتين كل منهما يأخذ الشجرة التي في اتجاه منزله. اقترحت زوجة الأكبر على زوجها أن تشد الشجرة ناحية منزلهما بخيط وراقت الفكرة للأخ الأكبر وبالفعل شد شجرته بحبل صوب منزله، لم تمض سوى ساعات إلا وكان الأصغير يحذو حذو أخيه.. اجتهد كل أخ أن يشد شجرته صوب بيته بحبل ليضمن أن تميل الشجرة ناحية منزله‘ وبهذا يثبت ملكيته التامة لها. مرت الأيام واصبحت هناك شجرتان عملاقتان، تميل إحداهما بإتجاه بيت الاكبر، والاخرى تميل بإتجاه بيت الأخ الاصغر. تشابكت غصون الشجرتين واختلطت ثمارهما. وعاد الصراع من جديد حول الثمار متشابكة الغصون، ملكيتها لهذا أم لذاك؟. احتدم الشجار بين الشقيقين مرة أخرى. ذهبا إلى مجلس للتصالح تدخل فيه وجهاء القرية للصلح بين الأخوين لكنهما أصرا إصراراً بليغاً أن كل منهما على حق. فشلت كل مساعي الصلح بين الأخوين وخرجا من مجلس الصلح متلاسنين كل منهما يكيل الإتهامات نحو الآخر.. انتبها وهما في طريقهما لمنزلهما لصراخ وعويل كل منهما جرى صوب منزله، وكانت الصدمة حينما وجدا، أن الشجرتين قد سقطتا كل واحدة على المنزل الأقرب لها لتقضي على الدارين ومن فيهما.