تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
كتبنا عن الحب في الأسبوع الماضي. ويستهويني أن أكتب عن الحب هذا الأسبوع أيضًا إن أذنتم لي حضراتكم. فهذا الحب هو المحرك لكل ما نقوم به على الإطلاق، فحتى فعل التنفس يكمن وراءه دافع من حب البقاء بشكل أو بآخر، بإرادة أو بغير إرادة. يتساءل الكثيرون عن مدى قدرتنا على إفساد الحب. لماذا لا يبقى أحيانًا؟! هل نفسده بإغوائنا لكل تلك المعاني الجميلة التي كنا ننتظرها أن تأتي معه كي لا تأتي؟! هل حقًا البدايات فقط تملك الجمال لهذا لا بد ألا تكون النهايات جميلة؟! أم هل حقًا نحن نحب من أجل كل تلك الأشياء التي لم نفعلها كي نفعلها، وحين نعلم أنها لن تحدث يغيب الحب؟!.
تحملك هذه الأسئلة على التفكير في قوة قصص الحب التي لم يكن يلتقي طرفاها. كانت قصص حلم أكثر منها قصص حب. ربما عاشت لأنها تعطينا هذا الحلم كلما ورد ذكرها. تتمتع هذه القصص بغموض كبير جذب أبطالها لها بشكل ساحر. فالغموض يجعل الأشياء أجمل في طبع الإنسان. لعل من أهم هذه القصص تلك التي جمعت بين عدو المرأة الكاتب الإنجليزي الكبير برناردشو والسيدة باتريك كامبل الممثلة المسرحية الإنجليزية حادة الذكاء. أصبحت كامبل في عام 1890م واعية بوجود جورج برنارد شو - الناقد الدرامي الكبير الشهير في "مجلة السبت" - الذي أشاد بشدة بأدائها الجيد وانتقدها بدقة لجهودها الأقل. ولقد استخدمها شو كمصدر إلهام لبعض مسرحياته قبل لقائهما الأول عام 1897 عندما فشل في محاولة إقناع "السيدة بات" بالقيام بدور جوديث أندرسون في أول إنتاج لمسرحيته أتباع الشيطان (The Devil's Disciple).[15] لم يكن قبل عام 1912، عندما بدأ شو وبات المفاوضات حول الإنتاج اللندني لـبجماليون، طوَّر شو افتتانه "بالسيدة بات" الذي نتج عنه علاقة عاطفية ولكنها غير مكتملة وعلاقة حب وافتتان متبادل وتبادل أسطوري للخطابات.[16] وقد كانت كامبل هي التي أنهت العلاقة، لم يتبادلا الحب إلا عبر مجموعة من الرسائل، فهو حب غيابي بامتياز، كانت لقاءاتهما قليلة ورسائلهما كثيرة، حتى بعد أن أنهيا علاقتهما، وبعد أن تزوج برناردشو استمرت رسائلهما في التدفق، رسالة حنونة قوية لها لغة دافئة، لكن عير المسافات البعيدة. رفض شو السماح لكامبل الفقيرة بنشر أو بيع أي من خطاباتهما إلا إذا تم تعديلها بشكلٍ دقيق، خوفًا من أن يزعج زوجته، شارلوت باين-توونشند، أو من الضرر الذي قد تسببه الخطابات لصورته العامة. ولم يتم نشر معظم الخطابات حتى عام 1952م، بعد وفاة شو بعامين.
لعل قصة الحب الغيابية الأشهر في عالمنا العربي هي تلك التي جمعت بين جبران خليل جبران الكاتب اللبناني المقيم في مهجره بالولايات المتحدة الأمريكية، والكاتبة الفلسطينية مي زيادة في مصر. إذ وقعا في الحب عشرين عامًا كاملًا دون أن يلتقيا على الإطلاق، وعلى الرغم من أن كل من قرأ رسائلهما رأى فيها حبًا كبيرًا جارفًا، إلا أن جبران لم يعترف لمي بالحب صراحة ولا مرة واحدة في هذه الرسائل، على الرغم من أنها صرحت بحبها له صراحة. كانت الرسالة الأولى بين مي زيادة وجبران خليل جبران عام 1912م حين أرسلت مي زيادة رسالة إلى جبران الذي كان يعيش في أمريكا لتشرح رأيها في روايته الأجنحة المتكسرة، وكان من ضمن تلك الرسالة. ثم توالت الرسائل بينهما لتصف عشقًا جميلًا صافيًا استطاع أن ينتشل مي من حزنها ومشكلاتها التي لم تستطع معها أن تقع في حب أي ممن عرضوا عليها الحب كالعقاد.
إن هذا الحب الغيابي يعطيك القدرة على رسم الآخر كما تريد، بل ويعطيك مسافة أكبر لتفسير تصرفاته كما تريد، فهؤلاء الذين وقعوا في حب لوحة استطاعوا أن يشعروا بالرضا عنها أكثر من هؤلاء الذين وقعوا في حب بشري له هناته وله مطالبه الكثيرة وله ملامح تتغير كل جزء من الثانية. فعند الغياب يبقى الحب خيارًا أول في علاقتنا بمن لا نعرف.
للتواصل: nahlaelhourani@gmail.com