لا يمكن الحديث عن ملكية مطلقة للأرض الزراعية تمنح الحق للفلاح كمالك أى أرض أو نشاط آخر فى تغيير طبيعتها بتبويرها أو البناء عليها وتحويلها إلى أرض غير صالحة للزراعة.
الأرض الزراعية ليست كغيرها من الأراضى، فالمستهلك لخيراتها من ثمر شريك فى ملكيتها للفلاح بمعنى من المعانى تحرّم على الأخير حرية التصرف فيها؛ ذلك أن تبوير فدان واحد ينتج فاكهة أو خضروات يعنى مباشرة تراجع كم المنتج ومن ثم غلاء الأسعار.
عندما يقول وزير الزراعة سيد القصير إن إجمالى الأراضى الزراعية فى مصر يبلغ ٩.٤ مليون فدان، تسببت أعمال البناء المخالف والتبوير فى تناقصها بنسبة ١٢٪ أى ما يعادل مليونًا و١٢٨ ألف فدان بحسب المستشار نادر سعد المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء، يصبح مفهومًا لدينا لماذا غضب الرئيس عبدالفتاح السيسى كل هذا الغضب، وربما كان من حقه وواجبنا أن نغضب أكثر إذا علمنا أن تكلفة استصلاح فدان واحد من الأراضى الصحراوية تبلغ بحسب وزير الزراعة نصف مليون جنيه أى أننا نحتاج لتعويض الأراضى الزراعية التى خسرناها ما يزيد على نصف تريليون وخمسة مليارات جنيه.
تستطيع عزيزى القارئ أن تتأكد بنفسك من تلك الأرقام باستخدام الآلة الحاسبة الموجودة على هاتفك المحمول لتعرف حجم الكارثة التى نحن بصددها.
يضاف إلى كل تلك الخسائر نشوء ٣٢ ألف تجمع سكنى عشوائى تابع لـ٤٥٠٠ قرية مصرية نتيجة التعدى على الأراضى الزراعية يطالب سكانها ببنية تحتية من صرف صحى وكهرباء ومياه شرب وطرق ومرافق خدمية كالصحة والتعليم وما إلى ذلك.
كل تلك الخطايا ارتكبت عبر عقود طويلة تأسس خلالها تحالف بين جنرالات الفساد فى المحليات وبعض ملاك الأراضى الزراعية، وقد ساعدت سنوات الفوضى التى تلت أحداث يناير ٢٠١١ ذلك التحالف على تسريع وتيرة نشاطه الذى امتد إلى الأراضى المملوكة للدولة بحيث أصبحنا نقرأ أرقامًا خيالية عن حجم التعديات التى يتم إزالتها واكتشافها فى كل المحافظات المصرية بدون استثناء.
ومع ذلك يؤكد الرئيس السيسى أن الدولة هى من ستتحمل تبعات تلك الخطايا لبناء مساكن بديلة لأولئك الذين تعدوا على حرمات الوطن دونما الشعور بذنب أو تأنيب ضمير، وكأن سرقة أرض الدولة فعل مشروع وحلال بل وحق مكتسب للمواطنين.
وينسحب مفهوم السرقة هنا على الأرض الزراعية المملوكة للأفراد، وتلك التى تملكها الدولة فكلاهما انتقاص من حقوق المصريين فى خيرات بلدهم.
قطاع لا بأس به من الفلاحين، ونتيجة لبعض السياسات والقرارات التى جعلت النشاط الزراعى غير ذى جدوى بالنسبة لهم لجأوا إلى تبوير أراضيهم لتدخل فى كوردون المبانى حيث يرتفع سعرها إلى الضعف تقريبًا؛ بينما لجأ قطاع آخر خاصة ممن سافر أبناؤهم للعمل فى دول الخليج إلى البناء على ما يملكون من أراض زراعية بعد أن هجروا مهنة الفلاحة وأصبحت غير مواتية لهم بسبب ظروفهم الجديدة.
بالنهاية تعددت الأسباب والخطب واحد، وحسنًا فعلت الدولة أن تحركت بكل هذا الحسم فى التعامل مع هذا الملف الذى تقترب خطورته وكارثيته من خطورة سد النهضة بحسب قول الرئيس، لكن وإلى جانب إجراءات المواجهة الصارمة ننتظر من أجهزة الدولة الرقابية مواصلة لجهودها حربًا ضروسًا تشنها على جنرالات الفساد داخل المحليات من مستوى القرية والحى والمركز إلى المحافظة.
ليس ذلك فحسب، فثمة إجراءات قد يحتاجها الفلاح لتشجيعه على الاستمرار فى زراعة أرضه تبدأ من توعيته بأساليب وتكنولوجيا الزراعة الحديثة ذات الإنتاجية الغالية ومنخفضة التكاليف عبر وحدات وإدارات الإرشاد الزراعى التابعة لوزارة الزراعة، ولا تنتهى بدعمه على نحو ما تفعل أعتى الدول الرأسمالية فى كل ما يحتاجه الفلاح من مستلزمات زراعية وتخفيضها أو حتى إلغاء الجمارك على الآلات الزراعية المستوردة وغيرها من المستلزمات كونها أدوات إنتاج سيما وأن الدولة تتبع نفس النهج فى دعم بعض الصناعات.
تخبرنا البرديات أن المصرى القديم كان يخاطب ربه عند الممات قائلًا: «يارب قد زرعت الأرض وحرثت الحرث ولم أجر عليها»، وهو ما ترجمه المصرى الحديث فى مقولته الشهيرة «الأرض عرض»، فأين نحن من هذه القيمة اليوم؟ ولماذا بات المصرى يستحل تبوير الأرض أو سرقتها.
ظنى أن فتوى تحريم الصلاة فى المساجد المشيدة على أراضى الدولة المنهوبة لا يكفى وكلنا مطالبون بمراجعة الخطاب الدينى والثقافى والاجتماعى الذى فشل فى ترسيخ قيمة غرس الفسيلة فى الأرض، بل وربما ساعد على استحلال الحرام بتبوير الأرض أو سلبها.