الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في وداع الدكتور محمد مشالي.. طبيب الغلابة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
صباح يوم الثامن والعشرين من شهر يوليو هذا العام 2020 انتقل إلى رحمة الله الدكتور محمد مشالي الشهير بطبيب الغلابة، وكان الدكتور مشالي نموذجًا للطبيب الإنسان الذي كرَّس حياته لخدمة فقراء المرضى من المصريين ومعالجتهم نظير مبلغ ضئيل من المال لا يزيد عن العشر جنيهات، وفي كثير من الأحيان لم يكن يتقاضى شيئًا من المرضى الذين يستشعر عدم قدرتهم على الدفع بسبب شدة فقرهم، جسَّد الدكتور مشالي الخصال الطيبة التي ينبغي أن يتحلى بها الطبيب والتي وردت في قسم أبقراط وفي لائحة آداب المهنة التي تصدرها نقابة الأطباء. فكان رحمه الله متواضعًا بسيطًا مخلصًا لمهنته طوال حياته. 
بساطة وتواضع الدكتور مشالي وضآلة ما يتقاضاه من أجر نظير الكشف الطبي على مرضاه أثار حفيظة بعض الأطباء الذين يرون في مهنة الطب مصدرًا للثراء، فهاجموا مسلك الدكتور مشالي متهمين إياه بأنه أساء إلى هذه المهنة، وأنه ظل بعيدًا عن مواكبة المستجدات التي تطرأ على العلوم الطبية. غير أننا نود أن نقول إن الطب ليس علمًا فحسب، بل هو علم وفن، لأنه يعتمد على الخبرة الحسية التي تتراكم عبر الممارسة، ولا يقتصر الطب على الدراسات الأكاديمية النظرية المجردة.. لذلك تجد طبيبين تخرجا من كلية طب واحدة، ودرسا على يد نفس الأساتذة، ومع ذلك يحدث بعد مرور 10 أو 15 سنة أن واحدًا منهما جابت شهرته الأفاق، في حين أن زميله الآخر ظل على حاله تقريبًا منذ تخرجه، عيادة الأول مزدحمة ومأهولة وعيادة الآخر خالية على عروشها لا شهرة ولا صيت!! درس كل منهما العلوم النظرية المتعلقة بالطب، ولكن حين شرعا في ممارسة مهنة الطب، برع أحدهما في الجوانب الفنية المتعلقة بقوة الملاحظة ودقتها، ومهارة استخدام اليدين، وتوظيف بقية حواسه كطبيب في فحص مرضاه. وفشل الآخر في تحقيق ذلك، فنجح الأول، وخاب الثاني.
لنعد إلى ما كنا فيه منذ حين، ولنتذكر أن الدكتور محمد مشالي رحمه الله ظل 50 عامًا تتراكم لديه الخبرات، راضيًا بأقل القليل من المال من مرضاه، فهو لم يكتسب ثروة من المال، لكنه حاز على ما هو أكثر قيمة، وأعني بذلك تراكم الخبرات الطبية، بسبب كثرة مرضاه وتنوع أمراضهم، إذ كان يظل في عيادته طوال النهار، وكان بابه مفتوحًا لكل الناس، في الوقت الذي يظن فيه البعض أن مهمة الطب ليست فحسب «تجارة» بل هى أيضًا «جزارة»، هذا البعض يهتم بالمظهر لا الجوهر، ينفق مئات الآلاف من الجنيهات لتجديد عيادته حتى تبدو في أفخم حال، فضلًا عن أن العيادة ذاتها تحتل موقعًا متميزًا.. هؤلاء يظنون أن هذا هو التطوير في مجال الطب.. أما الحالة المتواضعة التي كانت عليها عيادة الدكتور محمد مشالي، وعدم ارتدائه أفخم الملابس- كما يفعلون هم - ينظرون إلى هذا التواضع بوصفه تخلفًا عن ركب التقدم الطبي.
لكن الإنصاف يقتضي منا القول أن في مجال مهنة الطب هناك نماذج مشرفة تستاهل التحية والتقدير. على المستوى الشخصي أعرف أساتذة أجلاء لهم عيادات معروفة ومشهورة، ومع ذلك هم قمة في التواضع وعزة النفس والكرم الشديد، ولولا الحرج لذكرت قائمة بأسماء بعض هؤلاء العظماء من الأطباء. 
في كتابه «أخلاق الطبيب» شرح أبو بكر الرازي بعض الخصال التي ينبغي أن يتحلي بها الطبيب، فقال ينبغى للطبيب «أن يعالج الفقراء، كما يعالج الأغنياء»، وأن يكون رفيقًا بالناس، حافظًا لغيبهم، كتومًا لأسرارهم، كما يجب على الطبيب أن يتحلى بخصال الفيلسوف الحميدة، ومنها إنكار الذات، والحماس، والتواضع، والجدية، والحكم الهادئ، وهدوء الفكر والحزم.
كان الدكتور محمد مشالي – رحمه الله - قدوة حسنة للطبيب الملتزم بجوهر مهنة الطب بوصفها مهنة إنسانية، إذ كان مؤمنًا بالمبادئ والمثل العليا، أمينًا على حق المواطن في الحصول على الرعاية الصحية الواجبة، منزهًا عن الاستغلال بجميع صوره لمرضاه.