ثلاث سنوات تمر اليوم على رحيله.. وسنوات طويلة مرت على موقف معين يظل محفورًا في الذاكرة على مر الزمان.. كان ذلك في يوم من أيام شهر أبريل عام ١٩٧٦.. توجهت لمقابلته دون موعد مسبق في مكتبه بجريدة «الأهرام»، ولم تكن إلا لحظات ودخلت إليه فوقف مرحبًا.. جلست أمامه شابًا حديث التخرج دون أن أنطق بكلمة، بينما كانت يده اليمنى تمتد لتفتح درجًا من أدراج مكتبه وتخرج محملة بكمٍ من الرسائل محفوظة داخل الأظرف الخاصة بها.. يضعها على سطح المكتب قائلًا: فاكرك.. دى جواباتك اللى كنت بتبعتها لـ«الطليعة».
فاجأنى الدكتور رفعت السعيد بهذا الموقف، لكنه لم يترك لى فرصة الحديث، واستكمل قائلًا: «علمتنى دراستى للتاريخ أن أحتفظ بأى ورقة أو قصاصة، فقد أحتاجها يومًا ما، وأتعامل مع ما يصلنى من رسائل كمستند يمكن الرجوع إليه ولا أستهين بأى شىء يصل إلى يدى»، ثم سألنى: «تحت أمرك»، ورددت سريعًا: «الأمر لله.. عايز أنضم لمنبر التجمع»، وابتسم قائلًا: «ده المتوقع والواضح من رسائلك.. نلتقى غدًا في مقر التجمع بالدور التاسع في مبنى الاتحاد الاشتراكى على كورنيش النيل».
لم أتصور، وقتها، أن ألتقى بكاتب مرموق واسم لامع في عالم الصحافة، وله كتاباته المهمة وأبحاثه التى أحدثت ضجة في المجتمع، ومنها دراسته عن القوى البرجوازية وعلاقتها بثوار يوليو، والتى أعدها من خلال البحث والتنقيب بين السطور في صفحة الوفيات.
وحتى هذه اللحظة، ورغم مرور أكثر من 44 عامًا على اللقاء الأول، فإننى لا أعرف السر وراء اختيارى «رفعت السعيد» من بين أسرة تحرير «الطليعة» كى أبعث إليه برسائلى.. لم يكن رئيسًا للتحرير أو مديرًا للتحرير أو سكرتير التحرير.. كان فقط ضمن هيئة تحرير المجلة، لكنها كيمياء العلاقات الإنسانية التى لا يدركها كثيرون.. فقد استمرت معرفتى به وتوطدت العلاقة أكثر وأكثر على مدى كل هذه السنوات.. اختلفنا واتفقنا، تعاركنا كثيرًا لكنه كان دائمًا السباق إلى التسامح والسمو عن الصغائر والحرص على الاحتواء كأى أب حريص على أبنائه مهما بلغ بهم الشطط.
إنه الدكتور رفعت السعيد القائد الحزبى المرموق.. رمانة الميزان في حزب التجمع.. أيقونة اليسار المصرى.. خبير العمل التنظيمى الذى لا يشق له غبار.. المفكر الواعى بأولويات العمل السياسى.. الباحث المدقق في مجالاتٍ عدة.. الإنسان ثم الإنسان والإنسان بكل معنى الكلمة وتجلياتها ومعانيها.. وغير ذلك كثير وكثير.
هل تكفى هذه المساحة لاختزال رحلة طالت ٤١ عامًا، نلتقى خلالها كل صباح إلا أيام قليلة؟.. حتى عندما شاءت ملابسات معينة أن أبتعد عن مقر التجمع في السنوات الأخيرة، لم ينقطع التواصل بيننا وكان دائمًا سباقًا بالسؤال.. وأتذكره يجلس إلى مكتبه وأنا جالس أمامه، وهو يقول لى: «مش مهم أن تغادر العمل في الأهالى، لكن المستحيل أن تنزع عنك الصفة التجمعية، وأنت تتنفس التجمع في كل لحظة»، ودار حوار طويل وقتها ليس مكانه هنا.
دروس كثيرة تعلمتها منه، أحاول أن أسرد بعضها سريعًا.. عندما ذهب السادات إلى تل أبيب، أصدر التجمع عدة بيانات ووثائق، وطلب منى السعيد إعداد كتيب يرد على مؤيدى الزيارة، وصممت غلافًا عبارة عن نجمة داود يخرج منها رأس توفيق الحكيم «الذى أعلن يومها تأييده لخطوات السادات»، وذهبت فرحًا إلى السعيد أحمل نسخًا من الغلاف بعد طباعته، فإذا به ينزعج ثم يتكلم بهدوء: «الحكيم أيد سفر السادات إلى إسرائيل، لكن ده مش معناه إنه صهيونى.. الحكيم برضه قيمة كبيرة في المجتمع.. اعمل غلاف غيره وقطع ده»... وبعدها بيومين اصطحبنى إلى مكتبه بـ«الأهرام»، لأجد نفسى وجهًا لوجه مع توفيق الحكيم بعد أن دخل السعيد غرفته، وحكى له ما حدث وتركنى وخرج، وبدأ الحكيم يتحدث: «تأييدى للزيارة لوقف سيل الدم، لكن موقفى ثابت من الصهيونية وأعلم أن إسرائيل عدونا الرئيسى»، وتكلم توفيق الحكيم كثيرًا، وخرجت من مكتبه، غير مقتنع كشاب بكثير من كلامه، لكننى خرجت أساسًا أكن كل احترام وتقدير لشخصية توفيق الحكيم ومنهجه كواحد من الكبار الذين أثروا في العقل العربى، بعيدًا عن تهورات الشباب وطريقة تفكيرهم.. وكان ذلك درسًا علمنى إياه رفعت السعيد: «الأحكام القطعية والمزايدة الشبابية على خلق الله.. فيها ضرر بالغ بالجميع».
ذات مرة، قررنا في «الأهالى» الاستغناء عن محررة تحت التمرين لأنها اعتادت أن تأتى بموضوعات سبق نشرها في صحف أخرى، لكنها بدلًا من أن تتعظ وتتعلم الدرس، بدأت في شن حملة على عدد من قيادات الحزب والجريدة، وخصت رفعت السعيد بالهجوم الأكبر، ورأى رئيس التحرير وقتها أن ننشر بروازًا، نكتب فيه: «تحذير.. فلانة الفلانية لم تعد تعمل بالجريدة وانتهت علاقتها نهائيًا بنا»، لكن رفعت السعيد رفض ذلك بشدة.. لماذا؟.. قال السعيد: «ماتنسوش إنها بنت، والناس ممكن تفهم أن استبعادها تم لأسباب أخلاقية.. كلنا عندنا بنات ولازم ندارى على بناتنا».
في كتابه «مجرد ذكريات»، نالنى شرف كتابته عنى عندما سرد حكايات من دفتر حزب التجمع، وحاولت أن أسرد هنا بعض الذكريات، من وسط تاريخ يحتاج إلى مجلدات ومجلدات، وتبقى صفته الإنسانية تعلو على كل الصفات، وهو ما لا يدركه ولا يفهمه كثيرون ممن اختاروا كيل الاتهامات دون وعى أو تمحيص.. باق أنت بيننا إلى يوم الدين مهما طال الرحيل، وسلامًا على الصابرين.