كانت صديقة بمدينتى طرابلس عبر الماسنجر، تهدئ من شكواى ربكة الفيروس لخارطة عمل هذا الصيف، بخبر اللقاح الروسى، والأمريكى، وما تفتقت عنه مختبرات الإنجليز أيضا، وقد قاربوا تجارب اللقاح على عينات عُدت بالآلاف، فبادرتُها باب الأمل ليس لنا أن نسدهُ، وإن ظل ما يشغلنا ويُشقينا كدول عالم ثالث نستقبل لنستهلك وفقط، ومع أوضاعنا المتعسرة تحكم السوق الرأسمالى كعادته عند الكوارث فى رهننا تحت أساليبه فى العرض والطلب، وإن كانت سلعة اللقاح ستشهد تنافسا، ولعل ذلك يجعل حظوظنا أوفر، بما سيوفره بسعر متاح لدولنا!.
وعن المتاح والمتوافر حدثتنى عن استثمارها أوقات الإجازة التى طالت فى الحجر الكورونى ومع تعقد الأوضاع فى طرابلس، لتعود لعادات بيت جدتها الذى عاشت فيه، معاصرة ما تصنعه بالخضار والفواكه والحبوب، هو الاقتصاد المنزلى، ومستعيدة ذلك، وهى التى كانت تملأ سيارتها يوما فى الأسبوع من بضاعة السوبر ماركت، جلست صديقتى وأبناؤها فى قعدات تقصدت أن يكون مخزون ثلاجتها من الوجبات اليومية، من أعدادها وكما يقال صنع يديها، ضامنا لعدم الخروج المتكرر للعائلة أيضا، فصنعت اللبن الزبادي،والمربى، والهريسة وهى معجون الفلفل الحار(الحامى)، والزيتون المخلل، وكذا مخلل الفلفل الأخضر الحار، وخضار، وفواكه وفرتها كعصائر، ومجففة، ومقطعة للحلويات، حكايات صنعها لتلك الوجبات، ذكرتنى بطقوس بيتنا فى طفولتى ومراهقتى، إذ أعلن والدى - رحمه الله- رفضه لكل منتج «مُعلب» ما تسنى له ذلك، وجاء عبء ذلك على أمى، الصبورة، والأمهات لفوائد عائلاتهن أول المستجيبات، ما جعلنا كل الأبناء نلتم حولها عند ذلك، وصرنا عُشاقا لقضم الخضر والفاكهة ساعة تنظفها وتقطعها.بالنسبة لنا عمرت طفولتنا بمشاهد حميمية نشطة، مع تلك الخضار والفواكه ما أزدحم بها وسط البيت «الجنان»، وقعدات عائلية قد تمتد من الصباح إلى المساء، طبعا نتفرغ لوجبة الغذاء بينهما، ثم نعاود، معتادنا الموسمى تجفيف البصل والطماطم الأخضر، التى نقطعها ونرتبها بشكلها الدائرى أو الهلالى فى صحون واسعة تواجه الشمس الساطعة حتى تجف، ثم قعدات حفظها فى برطمانات مع طبقة من زيت زيتون تعلو سطحه، كما نتفرغ لشق حبات الزيتون بالسكين، ونقعها لأيام بالماء،ثم حفظها بالملح شهر وأكثر، يكون والدى قد أحضر بعض سيقان شجرة الزيتون لتضعها أمى أعلى ماء النقع ليلتصق بها ما يطفح من شوائب، وتضع أمى قبل فترة قريبة من النضج، شرائح من الليمون القارص، وساق وورق الكرافس، وحبات من الكسبر، وقطرات خل، كل ذلك يكسب الزيتون طعما لذيذا.
اما محبوبتنا مع الزبدة، المُربى «الململاطه»، لما يشترى والدى صناديق بالجملة من فواكه،التين أو الخوخ، وإن غلب البرتقال منتوج الغرب الليبىي، بتتعدد أصنافه، التى تُقشر ويتم تنظيفها، وقطعها شرائح عرضية لإزالة البذور، ثم تقيس أمى بصحن كمية ما ستضعه منها بالحلة الكبيرة على النار، ليكون ربعه ما ستضيفه من السكر، أما الهريسة، فتلك ما نشهدها كقعدة ببعض الامتعاض، إذ غسل الفلفل الأحمر الحار ثم تجفيفه وطحنه «قبل موضة مكنة ست البيت» بالمفرمة التقليدية اليدوية، يرفع حرارة أيدينا، ولا يشفع دهنها بالزيت لتهدأ!، فأبدا لم تدخل بيتنا معلبة طوال عقود إلى أن كبرنا، وكسرنا قاعدة أبى، وشاعت الهريسه التونسية المعلبة، وإن ظل عشقنا لهريسة بيتنا المتبلة الفواحة الحارة!، ولقد كان أجمل ما فى تلك الجلسات لأجل الأكل الحى المُصبر، والمُخلل دون تعليب الجاهز، تعاون والدى معنا معلنا أنها تسليتهُ، كثيرا ما ترك كتابا يقرؤه أو برنامجا يتابعه، واقترب من جمعتنا، تسبقه كلماته المشجعة لنا، ما أتذكره، وما وكد دوما شعورنا ببركة عمله معنا، أننا سننتهى من تعب تلك الزحمة، متى ما شاركنا فيها ولعل أبناء صديقتى خالجهم ذلك الشعور متكافلين مع والدتهم، إذ لا أجمل من اجتماع العائلة وتشاركها حكاياتها وعاداتها فى زمن باعدت فيه التقنية بينهم.