للموت هيبة وقدسية في العالم أجمع، ولكن تزيد قدسيته لدى المصريين، بحكم التاريخ والموروث الحضارى..فقد كان للموت دور هام في صنع الحضارة المصرية القديمة، وأغلب الآثار التى ما زلنا نحتفي بها لها علاقة بالموت، كالاهرامات والمومياوات والمعابد والمقابر والتوابيت، وكل ما كان يدفن مع الموتى، للاعتقاد في الحياة بعد الموت..كما أن الثقافة المصرية وما ارتبط بها من عادات وتقاليد، تعاملت مع المقابر بشكل خاص، فالكثيرون ما زالوا يحرصون على زيارة المدافن في الأعياد، ويأخذون زهورا لوضعها على المقابر ويوزعون مخبوزات خاصة للأحياء المتواجدين في تلك المناطق..فقد تحولت بعض المقابر مع الأيام لسكن للأحياء بجانب الموتى، حيث كانت المقابر في بعض الأحيان أكثر براحا وانشراحا لمن ضاق بهم الحال!..ولا شك أن أغلب المصريين لديهم مشاعر وحنين نحو المقابر التى تحمل ذويهم، وينظرون إليها باعتبارها سكنا لبعض منهم وتحمل داخلها رفات أحبابهم..فنحن نبكي حين نزور الأموات في سكنهم الجديد، ونخاطبهم أحيانا ونحن مستشعرين بأرواحهم تطوف حولنا..لذلك فكرة نقل رفات الموتى إلى مقابر أخرى، بعد خضوع المدافن القديمة للإزالة بسبب أعمال التطوير، ليست بالأمر الهين على كل من أجبرتهم الظروف لنقل رفات ذويهم، حتى وإن تم تعويضهم بمدافن أخرى!..ولكن رغم الحزن والوجع، إلا أنه ما باليد حيلة، فشئنا أم أبينا لا شيء يقف أمام المنفعة العامة في كل العصور..وبالتأكيد نقل الموتى من مناطق لأخرى ليس بجديد، فقد تم مرات عديدة على مدى الزمن..وكلما زحف العمران لمناطق الجبانات والتى عادة ما تكون في أطراف المدن، زادت الحاجة لنقلها لمصلحة الأحياء..وفى حالة المدافن الأثرية يمكن نقلها كما هى، دون المساس بمعمارها وهويتها وكافة ملامحها..وهو ما كنا نتمنى حدوثه في منطقة صحراء المماليك!..فقد شاهدنا على المواقع الإلكترونية جرافات تزيل بعض المدافن التى تبدو بقٍدمها وطرازها المعماري المميز "أثرية"..وإن كان المسئولون صرحوا بأن ما تم هدمه بعيد عن حرم الآثار الإسلامية المسجلة في المنطقة..في حين أكد بعض المعماريين أنها تعود لأكثر من100عام، وإعتبروا هدمها كارثة بحق الإنسانية!..ولكن بغض النظر عما كانت مسجلة أم لا، فقد وجه الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بتشكيل لجنة علمية فنية لمعاينة الشواهد والجداريات والنقوش والكتابات الموجودة بهذه المباني ليتم دراستها وبحث إمكانية عرض جزء منها في المتاحف كجزء من تراث مصر المتميز..وكنا نتمنى أن يكون تشكيل اللجنة قبل قرارات الازالة، حتى لا نكون قد فقدنا بعض من تراثنا الإنساني، والذى يمكن أن نبكى عليه لاحقا..فالآثار التى نفخر بها لم تكن يوما سوى تراثا متميزا!..وقد نشرت بعض المواقع والصحف صورا لأبواب تُراثية مصرية معروضة للبيع، من قبل شركة أخشاب وأثاث أمريكية بولاية فلوريدا، حيث أعلنت الشركة وصول شُحنة من الأبواب المصرية "الأنتيكة"، والتى دعت لسرعة الحصول عليها قبل نفاذها..وضمن الصور باب قديم يشار أنه لكنيسة قبطية كُتب عليه "الله محبة"و"الرب راعي"..ولكنى أعتقد أن تلك الأبواب خاصة ببعض الجبانات التى تم إزالتها -قبل تشكيل اللجنة-..وفى كل الاحوال سواء كانت خاصة بها أو بغيرها، هى الآن معروضة للبيع كجزء من تراثنا!..أما بخصوص تعويض أصحاب المقابر بأخرى بديلة، فقد شاهدت عائلات تم تعويضها بمدافن أخرى، ولكن أصغر ثلاث مرات من التى تم إخلاؤها!..وتم إلزامهم بدفع 8000 جنيه إضافية، لاستلام مدفن مساحته 40 مترا.. في حين كان المدفن القديم 120 مترا!.. ويفترض أن يكون التعويض بنفس المساحة، ودون دفع رسوم إضافية! حتى لا يكون نقل الرفات إزعاجا للموتى، وإجحافا لحقوق الأحياء!
آراء حرة
قدسية المقابر.. عقيدة وتراث
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق