الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جميلة كأمي فنانة كأبي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كلما أمعنت النظر في ملامح أمي رأيتني أشبهها، أمي لها طلة آخذة كممثلات الزمن الجميل، بتقاطيع الوجه الهادئة البريئة والفساتين القصيرة الأنيقة ذات الخصر الضيق والشعر القصير، صورتها بالأبيض والأسود لا تفارق عيني، لها صورة لا أستطيع التفريق بينها وبين الممثلة الرقيقة (شادية)

أمي امرأة تتمتع بشخصية قوية، نافذة البصيرة، مدير عام بالوزارة في قطاع حكومي، تحت يدها عشرات الهيئات التي تشرف عليها وعشرات الموظفين المسؤولة عنهم، لديها مهارات في الإدارة والقيادة وحسن التصرف، محاطة بحب الناس واحترامهم وتقديرهم، الإخلاص والضمير لديها يحتلان المرتبة الأولى في كل قراراتها، لا تقبل الهدايا أبدا من أي أحد لمجرد أنها أنهت له عملا أو حلت له مشكلة، تأتي المجاملات المحملة بالهدايا حتى باب بيتنا، ثم ترد الى أصحابها في الحال مع كلمات الشكر والامتنان أنها أدت واجبها ولم تفعل ما يؤهلها لاستقبال الهدايا، حنونة جدا وحكيمة جدا، يلجأ إليها معظم أقاربنا لطلب النصح والرأي وحل المشكلات، تعشق أبي وتقدره وتصل رحمه بشكل مذهل وكأنهم أقاربها ومن لحمها ودمها، أنا ابنتها البكرية التي تبوح لها بأسرارها رغم أنها قليلة الشكوى، امتلأت طرقات المستشفى بالزائرين الذين لم نعرفهم للسؤال عنها عندما أصيبت بنزيف مفاجئ بالمخ، لم يستغرق رقودها بالمستشفى سوى عشرين يوما حتى امتلأ المسجد والمدفن عن آخرهما بالمصلين والمشيعين .

كلما أمعنت النظر في ملامح أبي رأيتني أشبهه، أبي كان أنيقا في كل شيء، وسيما يحب الجمال، تخرج من كلية الفنون الجميلة، يمتلك عمله الخاص كمهندس ديكور، يرقد السحر بين أنامله، يصيغه تارة بكلماته وتارة أخرى برسوماته البديعة، نظم الكثير من المعارض الفنية التي تحمل لوحاته الموقعة باسمه الذي يكتبه أسفل اللوحة بطريقة مذهلة كأنه لوحة فنية أخرى مصغرة، يتجلى فنه أيضا في المشغولات الفنية اليدوية، كالرسم على الخشب والرسم على القماش بالشمع وتشكيل الزجاج، في أحد الأيام اضطر أبي الى دخول قسم الطوارئ بمستشفى حكومي لقربها من المكان الذي كان يسهر فيه مع أصدقائه نتيجة نزيف حاد من الأنف، اتصلوا بي في منتصف الليل لأوافيهم الى هناك، قضيت بهذه المستشفى والتي أسميتها بيت الأشباح ليلة رعب أقوى من أي فيلم رعب شاهدته، المستشفى كأنها خالية، لا يوجد أحدا بالممرات، بينما الحجرة التي قضينا ليلتنا فيها ممتلئة بأصوات تخترقك ولا تدري من أين تأتي، سقف الحجرة عال جدا وأنا وحدي مع أبي، وبالتأكيد لن أتكلم عن صحبة الحشرات التي جعلت عيني تتسع على آخرها حتى شروق الشمس

نقلنا أبي الى مستشفى خاص في اليوم التالي، قاموا بإجراء عملية جراحية له وأخذوا توقيعا منا بالموافقة على إجرائها حيث أقنعونا أن العملية ضرورية لإنقاذ حياته، ويبدو أنها كانت بلا فائدة ولا مبرر لأن بعد العملية بيوم واحد توفي أبي، ورغم أنه مستشفى خاص وتكاليفه باهظة إلا أن أدواتهم بالية، فقد أصررت بعدها أن أشتري منضدة مجهزة لتغسيل الموتى على طراز حديث كصدقة جارية على روحه لأنني استأت كثيرا من المنضدة التي قاموا بتغسيل أبي عليها فلم أرها تليق بكرامة الميت.

كنا صغارا نجلس بجواره وهو يرسم لوحاته ويضفي عليها سحره الخاص، لذا اعتبرنا أنا وإخوتي ميراثنا من لوحات أبي الزيتية كنزا ثمينا لا يقدر بثمن ووزعناها علينا بالتراضي، لكنني استأثرت برسائل العشق التي عثرت عليها بعد وفاته والتي كان يرسلها لأمي عندما كان مسافرا في مأمورية عمل، رسائل عاشقة (ولا رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان)، كان أبي يحب الحب، مجذوبا لمداراته، يشعر بالفقد فيكتب لأمي الشعر ويتغزل في جمالها وحنانها.

قبل زواجي قال لزوجي سأهديك أغلى ما أملك، هي الرقيقة الحالمة ذات القلب الجميل، هذا ما قاله لزوجي حرفيا قبل الفرح بأيام، كنت خائفة جدا لأني سأترك بيتي وعائلتي وأسافر مع زوج لم أكن أعرفه بعد، فقلت لأبي: (هل ستمنحني مالا وأنا مسافرة عشان لو احتجت شيء أشتريه) ضحك أبي وضمني إليه وقال لي: (طبعا يا حبيبتي كل ما أملك لكِ )، بعد زواجي بشهر وعندما سبقني زوجي الي مقر عمله بالخارج ليرسل لي أوراق استقدامي، وقبل ذهابي للمطار فتح أبي دولابه وأعطاني مالا كثيرا وقال هذا ما طلبتي، عانقته وقلت له لا داعي يا أبي فقد ترك لي زوجي ما يكفيني وأكثر حتى ألحق به، فأدرك أن طفلته ذات القلب الصغير قد كبرت قليلا .

ورغم مرور سنوات على رحيلهما فإنني قضيت معظم عمري أسأل نفسي هل أنا أشبه أبي أم أشبه أمي، ولكن يقيني لم ينفذ، فقد أدركت أنني جميلة لأني أشبه أمي، وفنانة لأني أشبه أبي.