لكتب السير الذاتية سحر خاص وكذلك الأفلام ومنها «الغراب الأبيض» للمخرج والممثل البريطانى الشهير ريف فاينز, والذى أهدانا أيقونة جديدة من أفلام السير الذاتية، ذلك الفيلم كنت من بين المحظوظين بمشاهدته فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأربعين، والذى حقق نقله نوعية فى حياة ريف فاينز السينمائية كمخرج وممثل له قدرة على التلون ليقنعك ببساطة أدائه أنه مدرب بالية روسى فى العقد الخامس من العمر متحدثا الروسية بطلاقة!
يسلط الفيلم الضوء على حياة أسطورة فن البالية فى القرن العشرين الراقص الروسى رودلف نورييف الذى حارب طوال حياته ليحقق غايته ويحفر للرجال مكانه مميزة فى هذا الفن الذى ظلت أدوار البطولة فيه مقصورة على النساء «الباليرينا» بينما دور الرجل ثانويا ومساندا لها فقط. حارب نورييف الخوف والفقر والجوع والصقيع ليحقق حلمه متمردا على عقبات الواقع متسلحا بالمخاطرة ورفض التعلق بالماضى ومحاولات التضييق عليه من قبل المخابرات الروسية بل أراد أن يبرز للعالم موهبته. الفيلم يسرد ما يشبه لقطات من حياة الرّاقص المعروف انتهاءً بطلبه اللجوء السياسى فى فرنسا خلال الستينيات حين جاء لزيارتها.
وفقا للصحف فى تلك الحقبة فإن قادة المخابرات الروسية KGB صرحوا للصحف بأنهم سيقطعون قدميه لانفصاله عن روسيا، لكنه قاوم كل ذلك واستمر ليلقن العالم درسا فى الشغف والتمسك به لدرجة التخلى عن الوطن والأسرة وكل شيء.
«الغراب الأبيض» فيلم إنتاج بريطانى فرنسى روسى مشترك ومأخوذ عن سيناريو للكاتب الشّهير ديفيد هَر، وهو بدوره مقتبس عن رواية لجولى كافانا.
يبدأ الفيلم بمشهد يخضع فيه بوشكين مدرب البالية للتحقيق أمام السلطات الروسية محاولا استنكار ما فعله راقص البالية نورييف وأنه لم يكن يتوقع منه أبدا ما فعله، وأنه لم يبدو عليه أنه مصاب بلوثة عقلية ما أو يعانى من ضغوط نفسية، ويضع هذا المشهد الافتتاحى المشاهد أمام لغز يحاول تفكيكه طوال الفيلم هل يشى بنورييف أم أنه يدافع عنه؟
يخطفنا فاينز ببراعته الإخراجية لمشهد الولادة العسيرة لراقص البالية نورييف فى قطار فى ظروف مناخية قاسية متجها لقرية نائية فى الاتحاد السوفياتي. إيقاع الفيلم مراوغا متحركا ما بين الماضى والحاضر فى حقبة الحرب الباردة والفقر والصقيع الذى عانى منه الفقراء فى الاتحاد السوفييتي، حتى أن الراقص لم يكن بمقدوره أن يجد حذاءً يذهب له للمدرسة يقيه قسوة الثلوج، فاضطر والداه لإلحاقه بمدرسة داخلية وفيها تلقى القسوة وتم تلقينه بأن الوطن هو من يدفع نفقاته ويبقيه على قيد الحياة لذا فهو مدين للاتحاد السوفييتى بحياته، لكن نورييف فجر حنقه فى الرقص واستطاع أن يتبع شغفه، الفيلم يتبع السرد اللاخطي، فتتابع مشاهد الفيلم يكشف عن جهد كبير فى الاعداد للفيلم عبر تقطيع متراوح بين ما كانت عليه طفولة نورييف القاسية والصعوبات التى يواجهها فى شبابه ليحقق حلمه، وحينما يواجه عقبة جديدة يعود لطفولته يستلهم منها القوة.
الأمر المثير هو اختيار مؤدى شخصية نورييف راقص البالية الأوكرانى أوليغ إيفنكو الذى يشبهه لحد مدهش! براعة أوليغ فى تجسيد شخصية بالغة الصعوبة وكأن نورييف قد عاد للحياة من جديد بلحمه ودمه بنظراته المتحديه للمستقبل وللمجهول فقد أقنع المشاهدين تماما لدرجه توحدهم معه، هذا الشاب العنيد الصلب المشاعر الذى سعى بكل ما فى وسعه من أجل حلمه وتحدى الظروف والمجتمع ورفض ما يملى عليه.
إخراجيا استطاع فاينز الولوج ببراعة لعالم راقصى البالية وتوظيف عدد من رقصات البالية الشهيرة وتجسيد الصعوبات التى يواجهها راقصى البالية والمشاعر المتضاربة التى يمرون بها أثناء التدريبات وقبل مواجهة الجمهور.
فى 16 يونيو 1961 وتماما كما يثب راقص البالية متنقلا على أرجاء المسرح كفراشة تحلق، قالها نورييف متحديا فى مطار لوبورجيه الفرنسى منسلخا عن فرقته «أريد أن أبقى فى بلدكم» حيث استشعر الخطر الذى يحيق به وأفلت الراقص السوفيتى البالغ 23 عامًا من مراقبيه من الاستخبارات السوفيتية.
تصل الذروة أقصاها حين تحدث المواجهة بين ضابط فرنسى وضابطى المخابرات الروسية فى المطار محاولين قنص الغراب الأبيض نورييف ليستجمع المشهد ببراعة عدة تأويلات سياسية وإنسانية وثقافية وتاريخية لتلك الحقبة. كل ما يمكن قوله هو أن الفيلم برغم طول مدته «ساعتين و7 دقائق» إلا أنه سيدفعك لاكتشاف نورييف بداخلك.