رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شيخ بلا عمامة وفيلسوف بلا قبعة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على الرغم من الزخم والثراء الفكري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين لا نكاد نلمح من بين قادة الفكر العربي من هو أبرع وأبلغ وأكثر حنكة ودراية والتزامًا بآداب الحوار وأخلاقيات التناظر من مفكرنا محمد فريد وجدي (1875م-1954م) الذي وصفه جل معاصريه بأمير المحاورين وفارس المتثاقفين. 
ويتراءى لي أن أكثر المواضع من مؤلفاته – على كثرتها وتنوعها وموسوعيتها - التي برزت فيها وجهته الإصلاحية ونهجه في التجديد هي تلك التي ناقش فيها مخالفيه من المستشرقين أو أقرانه من المثقفين العرب، وذلك يبدو جليا في حرصه على العزوف عن القدح أو الشتم أو التطرق لمثالب شخصية المناظر خلال محاورته له أو الرد على ما جاء من أخطاء وذلل في كتاباته أو الهجوم والطعن في أمورٍ يجهلها أو الكذب والتطاول في أحاديثه عن أمور يسلم بصحتها ويعتنقها، أو الحدة في النقد والشدة في الخصومة وغير ذلك من ثوالب الحوارات والمعارك الفكرية التي ذاعت في عصره، ويرجع ذلك كما أشرنا إلى أمرين: أولهما: تأثره بالمناهج العقلية التي كان يسلكها الفلاسفة في مناقشاتهم، وثانيهما: آداب الحوار وأخلاقيات التثاقف التي استنها أكابر العلماء المسلمين في نقودهم ومراجعاتهم ومناظراتهم التي كانوا يعقدونها بحثا عن الحقيقة وأصوب الآراء في الموضوعات المثارة. وكانوا يميزون بين الاختلاف والخلاف وعلم المخالفة، فالاختلاف يشير إلى المنازعة والمجادلة، أما الخلاف فيعبر عن المغايرة وعدم الاتفاق، أما علم المخالفة فيختص باستنباط آراء العلماء من مناظراتهم فيثبت ما أيدوه منها بالبرهان والآراء التي عدلوا عنها واستبعدوها انتصارًا لاجتهاداتهم دون دليل يقتنع به الآخر. أما الجدل فهو أقرب للتناظر بين رأيين، يجتهد صاحب كلا منهما في إقناع الآخر بصحته، أما علم الجدل فهو علم يقوم على مقابلة الأدلة لإظهار أرجح الأقوال المطروحة، وهو يختلف عن المجادلات السفسطائية التي كانت تعتمد على الإشكاليات اللفظية والمغالطات المنطقية.
أما الخلاف الذي يفضي إلى نزاع فيدرج ضمن المعارك اللفظية أو الخصومة المذهبية. أما الاختلاف المحمود فهو الذي ينتصر لرأي بعينه دون أن يقطع بخطأ الرأي الآخر (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، ومن فوائد هذا الضرب تمرين الذهن على ما نطلق عليه الممكن أو المحتمل والجائز وتناكح الأفكار واحترام الرأي الآخر. أما الخلاف المذموم هو وليد الهوى والحمق ورغبة في الشهرة والظهور أي الخلاف من أجل الخلاف وهو نقيض الحوار الفلسفي، وذلك لأنه يفتقر إلى دليل معقول وتعوزه الموضوعية في طلب الحقيقة. 
وتشير جل الدراسات على قلتها إلى أن الأستاذ محمد فريد وجدي كان أبرز الكتاب المحافظين الذين اتخذوا من النهج الحواري والمناقشات الهادئة سبيلا للدفاع عن النفيس من التراث والأصيل من العادات والتقاليد والجاد والطريف من مناقب علماء العرب وفلاسفتهم، الأمر الذي رغّب شبيبة عصره في مجلسه واحترام آرائه والاستمتاع بحلو حديثه، ودفع شيوخ الأزهر إلى تلقيبه بالشيخ وإسناد إليه رئاسة تحرير مجلة الأزهر بتوجيه من الشيخ مصطفى المراغي (1881-1945م) الذي لقبه بالشيخ البحاثة وذلك عام 1933م خلفًا للشيخ محمد الخضر حسين (1876-1958م). أما رصفاؤه من تلاميذ مدرسة الجريدة الذين انتموا للفكر الليبرالي المستنير فقد أطلقوا عليه اسم الناقد المحافظ المستنير ولاسيما عقب ظهور كتاباته النقدية التي رد فيها على: كتابي (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) لقاسم أمين، كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، (لماذا أنا ملحد) لإسماعيل أدهم، (مناهل العرفان ومبحث ترجمة القرآن) لمحمد عبد العظيم الزرقاني (ت: 1948م)، بحث (المذاهب الغنوصية في العالم الإسلامي) لعلي سامي النشار (1917-1980م)، وكذا نقداته لأرباب الفلسفات المادية المنكرين للألوهية والروح، وغلاة المستشرقين المشككين في السيرة المحمدية وسلامة القرآن من التحريف ولاسيما المستشرق الفرنسي إدوار مونتيه (1817-1894م)، والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون (1841-1931م)، والروائي الإنجليزي هربرت ويلز (1866-1946م)، والمؤرخ البلجيكي هنري بيرين (1862-1935م)، والجغرافي الأمريكي آيسايا بومان (1878-1950م.
وقد اشتهر بين عوام المثقفين بأنه من المفكرين وأئمة صحافة الرأي الذين ميزوا في كتاباتهم بين التحاور والتساجل والتناظر والتصاول والجدل والمحاجاة.
فقد أجمع معاصروه –كما ذكرنا- على أن مواطن التجديد والطرافة في كتاباته تتجلى بوضوح في مناقشاته بكل مستوياتها وأسلوبه الذي جمع فيه بين السلاسة والوضوح والدقة العلمية والحرية العقلية والرؤى المنطقية والحس الديني والأريحية الفلسفية الحريصة على احترام آراء الأغيار وتصريحات المخالفين واجتراءات الجانحين وشطحات المغالين في التساجل، ذلك فضلاً عن ابتعاده عن لغة المتعالمين والعنصريين والمستبدين والراديكاليين الذين يعتقدون أن الحق معهم وحدهم وليس في اعتقاد غيرهم وأنهم يمتلكون فصل الخطاب والحقيقة الكاملة خلال التناظر، وابتعاده تماماً عن القدح والحط من مكانة أو علم المناظرين أو شتم وسب الخصوم، الأمر الذي كان سائداً في مصاولات المثقفين في النصف الأول من القرن العشرين.
وتشهد بذلك كلماته المأثورة التي انتحلها خصومه قبل أصدقائه وأعجب بها كل من قرأ له أو تتلمذ على يديه.
ومن أقواله ردا على محمد رشيد رضا (1865-1935م) -الذي أخذ عليه رقته وسماحته مع مناظريه- "إذا كنا نحاول الرفق مع خصوم الإسلام لنستدرجهم إلى سماع ما نقول، فإن الرفق بأصحاب الاتجاه الواحد أدعى وألزم"، وذلك عملا بأدب القرآن "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". 
وقال ردا على علة إتيانه بالنص الحرفي لرأي خصمه قبل تفنيده: "ليست القضية قضيتي ولا قضيته، ولكنها قضية القارئ البصير، وهذا القارئ سيتلو الرأي ونقيضه ثم يجنح إلى ما يستصوب، فالرد واجب، ومحاولة تجاهله تأييد للخطأ، وهزيمة للصواب"، وذلك اعترافًا من وجدي بحرية المتلقي في الموازنة والحكم على جدية الأفكار. 
وقال أيضًا ردًا على المغالطين والمحتجين بالعلم على غير هدى وتدبر وأناة: "أنتم تقولون العلم يثبت، العلم ينفي، العلم يأمر، العلم ينهى، وبالتالي فأنتم تضعون على شفتي هذا العلم المسكين هذه الكلمات الضخمة، وتدخلون إلى فؤاده هذا الكبر والعجب، لا -أيها السادة- إنّ العلم في هذه المسائل ما وراء الطبيعة، لا ينكر شيئاً، ولا يثبت شيئاً، ولكنه يبحث، وأنتم تعلمون ذلك كلّه، ولا تجهلونه، فالعلم في الحقيقة ليس إلا إدراكاً لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت حواسنا"، ويعبر في هذا النقد عن موضوعية المناظر الحريص على عدم فضح جهل خصمه ومغالطته.
وفي رده على الفلاسفة الماديين الملحدين نجده يقول أنّ الطبيعة الحقيقية للنواميس التي تقود المادة الحية، "تتعالى عن أن تلمّ بها عقولنا"، ذاهباً إلى أنّ "العلماء المتبصرين لدراسة الكون والكونيات قد ظهر لهم، عقب حدوث اكتشافات خطيرة لم تخطر لهم ببال؛ أنّ حدود العلم ما تزال بعيدة عنهم، وأنّ كل ما حصلوه منه لا يعدو العلاقات الموجودة بين ما يقـع تحـت حسهـم من الموجودات، أما تلك الموجودات وحقيقة النواميس التي تدبرها، فما يزال أمرها مجهولاً، فإنّ الإيمان لازم من لوازم الحياة الإنسانية وضرورة من ضرورات الحياة الأرضية، فمن فقده فقد فقد الحياة، ولو ملك الدنيا بيمينه، ومن وجده فقد وجد راحة الأبد، ولو كان بين أنياب الفاقة، ومخالب الفقر المدقع، فالإيمان بوجود الله يهب الإنسان قوة كبيرة في مواجهة المصاعب والمصائب والآلام.
فنجده يبرر كتابات غلاة المستشرقين التي اتهمت الإسلام بأنه مجافيا للروح العلمية ومناهضًا للتفكير العقلي بأسلوب هادئ يخلو تمامًا من العنف أو العصبية، فيقول مبينا علة ظهور مثل هاتيك الكتابات المعادية للإسلام والمنافية لحقيقته: "إن الأوروبيين معذورون في تصديق التهم الموجهة ضد الإسلام والمسلمين، ولهم الحق في العمل ضده ما داموا لا يرون أمام أعينهم من مظاهر الدين إلا البدع التي اخترعها صغار العقول ونقلها منهم العامة، وتتعدد كثيرا من أشكال هذه البدع مثل الصياح في الطرقات خلف الطبول وتحت الرايات، واقتراف أشد المنكرات المنافية للأدب والعقل في الموالد، والاجتماع في حلقات كبيرة على مرأى ومسمع من ألوف المتفرجين، والصياح الشديد بالذكر مع التمايل يمينا ويسارا إلى غير ذلك". وهنا تبدو عبقرية وجدي فلم يبدأ باتهام مخالفيه بالجهل أو بالتعصب، بل رد أحكامهم التي لا تخلو من الغلو إلى أفعال بعض المسلمين أنفسهم التي تنقل صورة مشوهة عن الإسلام وتضع عقيدته وتعاليم رسوله في قفص الاتهام. 
ويضيف أنه على كل شرقي متنور واجبان: الأول: بيان حقيقة الإسلام للعالم أجمع، وأنه فضلا عن كونه بريئا من الأضاليل التي ينسبها إليه بعض الكتبة ومنزها عما يفعله العامة على مرأة من المتفرجين، فإنه ناموس السعادة الحقيقية وملاك المدنية الصادقة. والثاني: أن يسعى عقلاء هذه الأمة في محو البدع التي غص بها العالم الإسلامي وصارت نقطة سوداء في جبين الشرق، وموضع استهزاء كل من عنده مسكة من العقل، وهذا الواجب أصبح ضرورة في صلاح الأمة من الواجب الأول وضروري لتحقيقه أيضا. 
وللحديث بقية.