الخميس 09 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في بيتنا نقرأ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في بيتنا مكتبة، عليها فتحتُ عيني، مثلت لنا فضاء مكانيا معرفيا ذو أهمية،إذ منها وإليها يمتح أبي، وأعمامي من سكنوا معنا، في صفوفها كتب دينية هي مجال والدي معلم القرآن،ومسئول أحد مخازن مركزية لإدارة المساجد والمدارس القرآنية بطرابلس، أتذكر ما حوته مكتبتنا من أهداءات، وهي نسخ أضافية تطال رؤساء تلك المخازن، ووضعها أبي في مكتبة العائلة، وأزعم أنها كانت متاحة لكل من يدخل من ضيوف لمربوعتنا (غرفة الضيوف) بل بعضهم حظي باستعارة حرة،يرجع الكتاب ساعة يشاء، يحضر في ذاكرتي بعضها: تحاذي مجلدات المقدمة لأبن خلدون بطبعة قديمة، تفاسير للقرآن الكريم تفسير المراغي في ثلاثين نسخة، كنا نتبارى من يكمل قراءة النسخة المفردة الشارحة، وكان أبي قد ألزمنا بحفظ جزء عمى وشروحه،وترك لنا خيارا للباقي ! وقد رأه هاما لأداء صلاتنا التي لم يكن فيها علينا رقيبا ولا حسيبا،كانت مجلدات من عشرين جزء هي كُتب "فتاوى" من المغرب،تزدان بلون أخضر،تفسير التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور ما انحاز له أبي دونا عن الطبري والقرطبي وأبن كثير..،وفي المكتبة كانت الدوريات الليبية صحفا ومجلات في درج داخلي واسع منها مجلتي المرأة (البيت لاحقا)،والأمل (للأطفال)،وأصدارات من عناوين الثقافة الليبية ما رأها والدي تأسيس لعلاقتنا بوطننا، وما رسخ في ذهني بعض من رواد الكتابة ببلدننا: محمد مسعود فشيكه، محمد مصطفى بازاما، خليفة التليسي، أمين مازن، محمد أحمد وريث، على الرقيعي، عبدالله القويري، محمد الزوي، وسأتذكر قصص خديجة الجهمي للأطفال.
في أجواء بيتنا مشاهد مزدحمة ظلت في ذاكرتي مشوبة بابتسامة حائرة إذ والدي وأعمامي هادئون في مُعتادهم اليومي،لكن أصواتهم ترتفع ساعة نقاشاتهم وخصوماتهم حول ما يقرؤون بين منحازين ومدافعين.. كان والدي ناصريا مخلصا قحا، وكان أن انفتح أعمامي عقب أكمالهم دراستهم الجامعية على أبواب معرفية أخرى، كما رفاق جدد، لم ترق لأبي أفكارهم المغايرة، لكنه قبلها وكما في قولنا الشعبي كان يحمل شعار "تبديل ساعة بساعة" اذا ما وصل النقاش مفترق طريق يهدد بالانفلات،لكنهم عقبها يعودون كما لو أن شيئا لم يحدث!،حتى أننا نجلس على مائدة الطعام فإذا بالنقاشات تحتد ويجري أكمالها على قعدة أدوار الشاي الليبي التي كانت تعدها أمي،وهي تنجز واجبات مدرسة محو الامية لمؤسسة اليونسكو مبتدأ سبعينيات القرن المنصرم. 
ما كنت قارئة لولا أبي، معلمي الأول ومستمعي الأول، وفي ظني أن فضل التأسيس والعلاقة بهواية القراءة الاذاعية وفي حضرة المايك، أدين به له، القراءة المكتبية بل ومناخ وتفاصيل تلك القراءة،غالبا ما سمعت أبي يردد لأخوته ومن ثم لنا أبناؤه: هل قرأت العبارة جيدا هل استوعبت المقصود، بل كثيرا ما شاهدته يطوي طرف الورقة أو يمسك قلما ويضع خطوط، وينقل ما يعجبه في رزنامة سنوية يتابع بها شهور وأيام السنة كان محبا لتسجيل وتوثيق يومياته مانحتفظ بها إلى يومنا هذا عن عديد السنوات،وعن القراءة، وإعادة القراءة التي ورثناهاعن أبي كانت من موجبات التركيز والفهم، وكانت لي، أن أستطعم المعنى في قراءات أخرى، فلم تخلو مكتبتنا من الثقافة والأدب والفنون، صرت أقيم علاقة بكل ما أقرأ، أن أدوره في مخيلتي، أن أنقله بصورة لا يشق فهمها على مُستقبلي، الذي كثيرا ما شوشرة الحياة ومكابداتها تبعد ذلك الجانب(المخيلة) من تلقيه. 
أتذكر أني في مراحل دراستي الاولى كنت بصنيع أبي في، أملك زمام مكبر صوت الاذاعة المدرسية،كان التلاميذ من زملائي يقفون في طوابيرهم، فيما كنت أقف في مربع صغير بغرفة الاذاعة،لألقي كلمة المناسبات الدينية والوطنية،وأعياد الأم والطفولة، ومجيء الربيع، حين غادرت ميكرفون المدرسة إلى سلك التدريس هجرتُ القراءة لحين، لعنة عسكرة المدارس والمعاهد ألغت المايك، سيمسك به ضابط هو مدربنا على السلاح، وينادي أن نتراص صفا، ونؤدي التحية العسكرية،أخرست ألسنتنا وهجت القراءة،لا مكتبة ولا مايك، جرى تعيني لاحقا ولسنوات بمحطة مسموعة سيطر على مناخها ضجيج النظام، الخط الأحادي، وهجت الثقافة والأدب بما نرغب، فالذي ساد ماهو بأغلبه، صوت بأذن،و مُرسخ صورة السلطة، اليوم أجلس مراجعة علاقتي بمهنة القراءة، لأكتشف أني أمضيت بها ثلاثين عاما من الإذاعة المدرسية إلى الاذاعة الوظيفية، إلى تدريسي لفن الإلقاء بقسم الإذاعة بكلية الفنون والإعلام.