تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
في وقت متأخر من الليل.. اعتدت أن أجلس على سطح منزلنا الذي يتوسط الحقول.. أشاهد الظلام وأناجي السكون.. أهمس إلى نفسي، إلى دواخلي.. أفكر فيما على الدوام أفكر فيه.. واسترجع ذكريات ملَّت من الرجوع.. أغرق في الذكرى، وأفيق على نسمات الهواء.
ها أنا أجلس يلُفُّنِي الظلام بأثوابه القاتمة.. اللهم إلا قليلًا من الضوء الذي أراه على بُعد ينبعث من بعض مصابيح أعمدة الإنارة.. أرى كذلك أشباحًا بعيدة، هي أشباح الشجر الذي يتناثر هنا وهناك.. صمت شديد يخيُّم على المكان، ولكنه يجعلني أسمع بوضوح نقيق الضفادع في الحقل.. وبين الحين والآخر أسمع صوت نُباح كلب يعلو ثم ما يَلْبث أن يخفُت.
وبين ذاك الظلام وهذا السكون.. تتداعى الأفكار وتحاصرني الذكريات.. وكأنّ لها قلبًا لا ينبض إلا ليلًا.. أرفع رأسي إلى السماء فأجد نجومًا كثيرة العدد، ولكنها باهتة الضوء.. ماذا لو حدثتْني إحداها وأخبرتْني بما أريد أن أعلمه؟! فلا شك أن النجوم تُخفي كثيرًا من الأسرار، ولكن لا تستطيع أن تبوح بها.. ربما لو باحت لفقدت جاذبيتها وسقطت محترقة.
لا أحد يمكنه أن يحترق من أجل أحد.. أنت فقط يمكنك أن تحترق من أجل نفسك.. فإذا أردت ألّا تحترق؛ فعليك ألّا تبوح!!
ما هذا الجمال أيها الليل؟! ومن أين أتيتَ بكل هذا السحر؟! دلائل سحرك يرويها ذلك القمر الذي يلوح في الأفق.. وينقلها إليَّ هذا القيروان الذي يتردد صدى صوته العذب في جنبات الفضا.
أتراني أبالغ في وصفك يا ليل؟ لا.. أنا لم أقل شيئًا بعد.. إنني أنظر فأشاهد على منتهى بصري شجر النخيل وقد انعكس عليه نور القمر.. أراه يعانق السماء شامخًا.. كما أنظر في السماء فأجدها قد انقسمت قسمين.. الأول: صافى تلمع فيه النجوم كثوب زينته حبات اللؤلؤ.. أما الثاني: فمتشح بسحب ملائكية بيضاء.
أما نسمات الهواء العليل يا ليل.. فتحدثني بحكايا من زمن الأساطير.. إنها تقول لي: إن بين هذا النخيل الذي تراه، تدور بالسيوف رحى حرب بين أمير ولصوص كانوا قد اختطفوا محبوبته.. الأمير قد خرج إليهم مع فارسين من فرسانه، ولكنه الآن يبارزهم بمفرده.. يخبرني النسيم بأن الأمير قد أرْدَاهم قتلى.. ثم أخذها خلفه على حصانه الأبيض وانصرف.
لفحة من البرودة تعتريني.. حسنًا سأصنع فنجانًا من القهوة، وأشرب حتى الثمالة.. نعم أنا أسْكر من القهوة، لعلى أنسى ما أتذكره.. شربتها.. لم أغفل ولم أثمل؛ ازددت يقظة.. قهوة ونسيم ولا نديم.. الذكريات نديمي.. أعاود الذكرى؛ فأسمع في مخيلتي من يناديني أحبك ناسيًا.
هكذا قد عدتُ للجلوس على سطح المنزل.. كما كنت في ليلة قبل أمس.. أتأمل، أنتعش، أعانق الخيال، أنتمى للماضي وأتجرد، أحلم بالغد، أتذكر وأنسى، وبين النسيان والذِّكِر يعيش الإنسان.
الآن سوف أترك السطح وأنزل إلى أسفل.. فلم أعد أحتمل لدْغات البعوض وتساقُطِ الندى.. سأخلد إلى النوم.. ولكن تؤرقني الذكريات من جديد وتعاودني؛ فأعاودها.