ذكريات الأعياد ونحن صغار لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، فقبل أيام جاء علينا عيد الأضحى ١٤٤١ هجرية، كما جاء من قبله عيد الفطر المبارك في ظل جائحة كورونا، وفي ظل حالة تباعد اجتماعي فرضتها الظروف القهرية على كل الأسر، والأحبة، والأصدقاء، فقد خلت الشوارع والحدائق والشواطئ، والمتنزهات، ودور السينما ومواقع الترفيه، من البشر، بفعل الإجراءات الاحترازية التي فرضها انتشار الوباء.
ويبقى للأعياد زمان مذاق خاص، وطبيعة لها خصوصية، لا أعتقد أنها ستعود، وستبقى ذكريات نحكيها لأولادنا وأحفادنا، وسيأتي يوم ما تصبح جزءًا من التاريخ، نقرأه أو نسمعه كما هو الحال فيما يرويه المؤرخون عن الأعياد في الأزمان السالفة.
قد يكون وباء كورونا أحد أهم الأسباب التي ستترك تأثيرات ومتغييرات على احتفالات المصريين والعرب والبشرية بالأعياد والمناسبات، وتفرض على الجميع معايير وضوابط جديدة على اللقاءات، والتجمعات، وربما تكون هناك فجوات اجتماعية مستجدة يقرها الناس على بعضهم البعض، بل ربما تطال أمور خاصة بالعبادات.
ولكن يبقى لنشير إلى أعياد زمان، وكيف كانت الناس تتدفق إلى المساجد من الفجر، لتعلوا الحناجر بالتكبيرات، ونميز أصوات الكبار، بين تكبيرة وأخرى، بل وصل بنا أن نربط العيد بصوت العم فلان والعم علان، ونقول هذا صوت عمي الحاج محمد شبانة، وهذا صوت العم الشيخ سيد الحندولة، وذاك صوت العم محمد الحنفي، وهناك صوت الشيخ رفعت، وغيرهم كثر.
وتمتد التكبيرات، ويتوافد المزيد من المصلين على مسجدي قريتي ميت غراب في هذا الزمان، بعدما تعددت المساجد الآن مع النمو الجغرافي والديموغرافي للقرية، ومع شروق الشمس يبدأ مؤذن المسجد بالنداء على الصلاة بكلمات محددة "الصلاة جامعة، إن صلاة العيدين سنة من السنن المؤكدة، فقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"، ويبدأ الإمام، في الصلاة، وبعد التشهد والسلام، تبدأ خطبة العيد، والتي ألاحظ دموع المصلين تنهمر من كلمات الخطبة، عن قصة سيدنا إبراهيم مع سيدنا إسماعيل وأمه هاجر، وقصة الذبح التي نعرفها جميعا، لكن طلاقة لسان من يلقي الخطبة وكلماته المؤثرة، هي التي تثير قلوب المصلين، وتختلف الكلمات من الشيخ رفعت والشيخ محرز، والشيخ خطاب عن غيرهم، وهكذا يأتي التأثير مختلفًا.
وبعد انتهاء الصلاة يخرج المصلون جماعات في طريق ممتد إلى المقابر في عادة توارثها الناس لزيارة موتاهم، والترحم عليهم، وقراءة الفاتحة، على الآباء والأجداد والأولاد، والأهل والأحبة، وكل من هم في رحاب الله.
وتتحول زيارة المقابر إلى ملتقى متحرك بين كل الناس، وحالة خاصة بالتهاني بقدوم العيد، واللقاء بالأصدقاء والأهل وربما ناس لم تراهم من شهور، ويقف على الطريق ودخل المقابر أصحاب الحاجة، الذين لا يبخل عليهم أحد.
وبانتهاء زيارة المقابر، يبدأ الجزء الثاني من مراسم الاحتفال بالعيد، ويتجمع الآباء وكبار كل منطقة، في مجموعات، لتبدأ الزيارات الصباحية إلى المنازل، وأمام كل بيت يقف كبير العائلة، أو جالسا في "المندرة" ومعه سيدة المنزل أم العائلة، لاستقبال المهنئين بالعيد، وأمامه الملبس وعلب الشيكولاتة، و"الكرملة"، وما لذ وطاب، من خيرات البيت، وتقديمها لكل زائر ومهنئ.
وتلك فرصة الصغار لالتقاط من يحبون من حلويات العيد، قبل أن تبدأ المرحلة التالية، وفي الطريق نمر على كل البيوت، بيت عمي السيد وعبدالله وموريس، وفهيم، وعائلات زاهر، وعامر وجبر ووهبة، وجرجس، وشحاتة وطمان والحضري وهجرس والعزب، وعويس والدقلة، وشبانة وغيرهم.
لا فرق بين مسلم ومسيحي فإنه يوم العيد، لكل الناس، ووسط حالة خاصة جدا، لم نعرفها إلا عندما كبرنا، وظهر من يريدون تقسيم الوطن، وإثارة الفتن والطائفية في المجتمع.
وتنتهي الجولة الصباحية، ليعود الجميع إلى منازلهم لتناول وجبة الفطور، والتي بدأت الأمهات والجدات، والأخوات تجهزيها من الفجر، وتجلس العائلة على "الطبلية" التي تتسع للجميع، وتبدأ الأم والجدة في توزيع الأنصبة من اللحوم والبط والوز والفراخ، والحمام، كل حسب رغبته، والكل في دائرة حول صينية الفتنة، والأرز المعمر،.. يوم له خصوصية. وبعد راحة قصيرة، تبدأ المرحلة الثالثة من العيد، وهي جولة على الأهل والأقارب والأصدقاء، فيما تستقبل بيوتنا الأخوال والعمات والأعمام، والأصدقاء، والأقارب، ونحن في انتظار "العيدية"، وإن كانت قروشًا إلا أنها ثروة، لنجري بما جمعناه، لنلهو في مراجيح، عم على وغيره، وكانت ألعاب بسيطة، منها ما نسميه بـ"القارب"، عبارة عن صندوق في شكل قارب من الخشب يتحرك على قائم مثلث خشبي، أو "الزنينة" شبيهة بألعاب الملاهي الكهربائية الدائرية حاليا.
بخلاف بعض الألعاب الأخرى، مثل ضرب المبمبة، والتنشين، ونشتري بعض الحلوى، والبالونات، أو البلي.. ويستمر العيد ثلاثة أيام كاملة، كنا نود أن تمتد، لنواصل جمع العيدية من البيوت. هذا جزء من أشياء كثيرة عن العيد.. فهل تعود تلك المودة والمحبة، أم أن الزمن لا يعود للوراء.