ماذا يمكن أن تنتظره الأمهات أو ينتظره الآباء في نهاية المطاف وبعد رحلة من العطاء للأبناء غير الراحة؟ لكن عن أي راحة لكبار السن نتحدث.. هل هي راحتهم أم راحة أبنائهم أم أن الموقف قابل ليتضمن راحة الطرفين؟
أسئلة صعبة في زمن يزيد هذه العلاقات صعوبة أطرحها ونحن في إجازة عيد الأضحى التي هي مناسبة لتبادل المشاعر الجميلة بين الآباء والأبناء من باب صلة الرحم لمن يحتل هذا المفهوم الديني حيزا في تفكيرهم، أو من باب تحمل المسؤوليات عندما نتحدث في إطار مدني واجتماعي عن الحقوق والواجبات بين أعضاء الأسرة. ولا أنكر أيضا أن مبعث التساؤلات هو تأثري بعدة رسائل كتبها أحد الأطباء المصريين الأكثر شهرة في تخصصه على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ثم استمعت إلى تفاصيل أخرى مؤثرة عندما تم التواصل بيننا تليفونيا.
هل من الضروري أن يوافق الأبناء على زواج والدهم الأرمل بعد وفاة والدتهم؟؟ سؤال محير.. نحن أمام مشكلة غير عادية بل استثنائية فهذا الأب لا يشتكي من أي احتياج أو نقص كما هو المعتاد والمتوقع في الشكاوى لأن لديه كافة الإمكانيات العلمية والمهنية والمالية والترفيهية والثقافية والفكرية.. لكنه يشتكي من الوحدة فقط لاغير! توفيت زوجته أم أبنائه منذ سنوات طويلة ولم يستطع أن يملأ ذلك الفراغ الذي تركته بعد غيابها سواء من خلال عمله في عيادته ومستشفياته أوعملياته ولا حتى هوايات السفر والكتابة والجلوس مع الأصدقاء. وانشغل الأبناء الذين يحتلون مراكز مرموقة بعملهم وحياتهم الشخصية وأسرهم الصغيرة ونسوا أو تناسوا الأب ولا يتذكروه إلا عندما يحين موعد الدعم المالي الشهري أو في المواسم والأعياد أو عند بيع بعض الأراضي والممتلكات ليتلقوا ما يغدقه عليهم وعلى أحفاده من خيراته بلا حساب. ولم يكن الرجل ليبالي فهو مليئ بالحنان والعطاء وقد ظن أن ذلك متبادل وبشكل بديهي دون أن يتوقف للحظة ليتساءل أو يشك في صدق تلك المشاعر المشتركة بينه وبين أغلى الناس لديه.
لكن اللحظة الصعبة كان لابد منها ليستفيق من أوهام سجن نفسه داخلها. كان ذلك ذات ليلة عندما شعر بإعياء وهو يستعد للنوم وتلاه نوبات من الغثيان ثم القيء وتحرك مسرعا نحو الحمام لكنه فقد توازنه وسقط على الأرض مغشيا عليه غارقا في دمائه. ولم يدرك عندما بدأ يستعيد وعيه كم من الوقت قد مضى عليه وهو في هذه الحالة ثم حاول أن يزحف إلى أن وصل إلى مكان تليفونه ليستدعي الإسعاف وأحد أبنائه.
وبعد أن تماثل للشفاء من هذه الأزمة الصحية الصعبة قرر الأب أن ما يلزمه على وجه السرعة هو زوجة ورفيقة. لكن قراره كان بداية الألم الذي لم يحسب حسابه من قبل حيث رفض أبناؤه الاستجابة له بل وبدأوا يمارسون غضبهم بشتى الصور التي تزيد من وجعه فيقاطعونه تارة مع غلق تليفوناتهم ويمتنعون عن الذهاب لزيارته تارة أخرى مع تعمد الانقطاع عن الاجتماع الأسبوعي للأسرة كما كانوا متعودين في سابق حياتهم بل إنهم عمدوا لما هو أفظع وهو منع الأحفاد عن زيارة جدهم. وإذا كان هذا الأب قد استطاع أن يتظاهر بتحمل غياب أبنائه عنه فإنه عجز عن تحمل عدم رؤية أحفاده وأن يأخذهم بين أحضانه ويلعب معهم وقد كانوا البلسم الذي يداوي أي عتاب و وجع وجراح فيما مضى!
ولم يتراجع الأب بل مضى في قرار الزواج واختار من تناسبه في السن والمقام والفكر وبعث رسالة ضمنية لأبنائه بأنه لم يكن يحتاج إلى موافقتهم بالمعنى الحرفي لأنه يعرف جيدا ما يناسبه. ولحين استكمال إجراءات الزواج وترتيب الحياة الجديدة انتقل إلى العيش في فندق ومعه مرافق مرة يكون سائقه الخاص ومرة أحد المعاونين في عيادته إلى أن أتم الزواج وانتقلت زوجته إلى جانبه وكانا يعرفان بعضهما البعض كمريضة قد تلجأ إلى استشارة طبيبها عند الضرورة ويعلم عنها كل تفاصيل حياتها فهي أرملة ولها حياتها الأسرية وأبناؤها وعملها وأصدقاؤها، ولقد ساهمت هذه الزوجة "إبنة الأصول" في أن تهون عليه وحدته وتزيل همه وكربه وتمسح دمعه وتملأ وحدته وكانت خير الرفيقة والصديقة. ومع ذلك، تأتي الأعياد مثل عيد الإضحى هذه الأيام لتقلب مواجع هذا الأب المسكين فيتذكر عقوق أبنائه وجفائهم وتتقطع أوصاله كلما اشتاق إلى أحفاده. وقد قرر هذه المرة أن يلجم مشاعره ويمتنع عن إرسال المساعدات الشهرية والعيديات وأن يجرب أن يعاقبهم مرة بعدما أدمنوا معاقبته مرات!
لعلكم تعلقون مثلما علقت بعدما استمعت للقصة: "وهل كان يداوم على عطاياه طيلة المدة الماضية رغم جفائهم وإساءتهم؟! "
هو بالفعل كذلك.. أظنكم فهمتم الملابسات الخافية حول هذا الأب الحنون والجد الطيب ولماذا تعامل معه أبناؤه كأنه ملكهم وكل ما لديه يخصهم وأن ذلك "أمر مسلم به" !!
وقصة هذا الرجل تقودني إلى التذكير ببعض القيم التي نحتاج لغرسها في الأجيال الجديدة حتى نتفادى مثل هذه التصرفات التي سنكون حتما ضحاياها. ولعل أفضل طرق الغرس الطبيعي دون منشطات وكيماويات للتربة هي أن نتصرف بحنو وعاطفة أمام أبنائنا مع أمهاتنا وآبائنا كبار السن لأننا أفضل قدوة أمامهم ومثلما نتصرف سيتصرفون بدورهم معنا عندما تتقدم بنا السنون. كما أدعو إلى ضرورة أن تولي مناهجنا التربوية والتعليمية هذا الجانب قدراً كبيراً من الرعاية والاهتمام فبر الوالدين مفهوم شامل ولابد من إضفاء الطابع الإنساني والاجتماعي جنبا إلى جنب مع الطابع الأخلاقي و الديني على هذه الثقافة الأسرية. كما أجد قصة هذا الرجل مناسبة أيضا للتنبيه إلى وجود مفهوم جديد للعقوق وهو العقوق المعنوي؛ فالأبناء قد يوفرون ما يطلبه الوالدين من احتياجات مادية أو علاجية أو خلافه لكن تبقى غير كافية أمام الفراغ العاطفي الكبير بين الآباء والأبناء نتيجة قلة التواصل وغياب الزيارات واللقاءات وبدوافع ومبررات قد تبدو مقنعة مثل زحمة الحياة ونسقها المتسارع. هذا العيب لو استمر فمن الممكن أن ينبىء بمؤشرات مستقبلية خطيرة عن بنية العلاقات المجتمعية ومدى تضرر التضامن والتكاتف الأسري. لذلك هناك أدوار مهمة على المؤسسات المعنية والمجتمع المدني والإعلام القيام بها و في مقدمتها تنظيم برامج للتوعية من قبل متخصصين بهذه العلاقات التي تهوي إلى منحدر سحيق ويهوي معها جزء من موروثاتنا وقيمنا و ثقتنا في أنفسنا و احترامنا لذواتنا عندما ننظر في مرآتنا.
لم أرد التنكيد عليكم في عيدكم لكني شعرت وأنا أستمع إلى قصة صديقي "طبيب العيون" أن الدموع تملأ عينيه عندما تذكر أحفاده في العيد، لكن عزة نفسه هي التي حجزتها وأننا من باب التضامن معه ومآزرته من الضروري أن نذكر أنفسنا كل لحظة كم يحتاج الكثيرون منا أن يتربوا من جديد ولا عيب أن نعترف بذلك التقصير إذا كان بداية جيدة للإصلاح والتصويب.