حاولت مجددا أن أتخلص من هواجس الحياة التى أحياها .. وأن أبتعد ولو قليلا عن مخاوفها التى أعيشها فلم أجد بدا من أن أتوجه إلى فراشى وأن ألقى بجسدى الواهن ممدا ومعه همومى التى لاتفارقنى على فراشى فى عالم تتنازعه متناقضات عجيبة وغريبة لاتنتهى ولاتكف ولاتتوقف عن ملاحقات النفس الحائرة والعقل المترهل بأحداث لاترحم .. أغمضت عينى مستعيدا تلك اللحظات التى عشتها فى الماضى وكما لو كنت أنتظر مشاهدة فيلم سينمائي أحبه فى دور العرض .. دخلت بقوة إلى عالم الظلام فلعلى أجد فيه ضالتى بعد أن هربت من عالم النور الصاخب المخيف .. دارت بى الذاكرة سريعا وزلفت بى مسرعة متراجعة إلى عالمى القديم .. فلم أجد فى حاضرى المؤلم ما يأنس خوفى ويبدد قلقى ويربت على مشاعرى المتعبة .. تراجعت الذاكرة مرتدة للخلف تستعرض شريط أحداث الحياة العابثة .. توقفت معى عند أحد المشاهد التى طالما تمنيت لو كانت حياتى توقفت أيضا معها .. عندما كنت مازلت صبيا صغيرا .. صباح يوم جميل هادئ أستيقظ من نومى مبكرا كعادتى .. أسمع صوت والدتى الحنون وهى تنادينى باسمى لأتناول وجبة الإفطار مع أبى قبل توجهه إلى عمله .. المذياع الكبير يعلن بدء اليوم الجديد وتتوالى فقراته اليومية المعتادة ويبدأ فى إذاعة نشرة أخبار السابعة .. بينما يهم والدى بالتوجه من غرفته إلى مائدة السفرة وهو يضبط رابطة عنقه الأنيق بعد أن انتهى من ارتداء بذلته العسكرية... أجلس بجواره وبجوارى أختى وأمى .. يربت على كتفى ويبتسم ويداعبنى .. بينما يعود منهمكا وهو يتناول الإفطار سريعا إلى الجرائد الموضوعة أمامه والتى يحضرها عم زكريا كل يوم ويلقيها أسفل عقب الباب .. بينما أجذب سريعا مجلة من مجلاتى التى يحضرها مع الصحف اليومية.. وأقرأ مافيها بنهم شديد وأتطلع إلى صورها الجميلة الملونة وأنا أفرك عينى محاولا التخلص من سبات الليل الطويل .. يعلن المذيع عن مبادرة روجرز الأمريكية .. تتناقش والدتى مع والدى فى بعض من تفاصيلها .. بينما أحاول أن أستوعب أى شىء من حديثهما .. يودعنا أبى إلى عمله .. بينما تشرح لى أمى ببساطة يستوعبها عقلى الصغير شيئا عن هذه المبادرة .. أنصرف إلى حجرتى بعد تناول إفطارى لاستكمال مسلسل القراءة فى كل المجلات المحببة إلى قلبى بينما تنصرف عينى بحثا عن صفحة الرياضة فى الجرائد اليومية .. أكبر وتكبر معى مداركى .. وتتنامى داخلى مشاعر الوطنية وهموم الوطن .. بينما تظللها وتميل عليها أدبيات وفنون العصر الجميل .. فقد كانت مقالات نجيب المستكاوي وعبد المجيد نعمان وناصف سليم هى البوابة التى عرفنا وعبرنا منها إلى عالم الرياضة .. وكانت مقالة محمد حسنين هيكل (بصراحة) يوم الجمعة من كل أسبوع فى الأهرام هى بداية قراءاتى ودخولى للتعرف على عالم السياسة .. أما كتاب ومطربى الثورة يوسف السباعى ويوسف إدريس وأم كلثوم وعبد الحليم هم من شكلوا داخلنا الوجدان فى التعلق بالأرض والحياة والوطن .. تيقظت من نومى وأضيئت دور العرض مرة أخرى .. نهضت مسرعا وتوجهت إلى مكتبى الصغير فى غرفتى .. فتحت الدرج الأسفل منه وأخرجت قصاصات الجرائد القديمة التى أحتفظ بها وبعض من المجلات التى كنت أعشق قراءتها .. بحثت فى داخلها عن خلاصى .. تنازعتنى أشياء كثيرة .. اختلط داخلى الماضى الجميل والحاضر المؤلم .. وبينما أنا منهمكا مسترجعا كانتاش سبابة وإبهام يدى اليمنى يحرك مفتاح محطات الراديو الترانزيستور الصغير أعلى مكتبى لأتجول بين برامجه .. فجأة تتوقف يدى عن الحركة.. ويتناهى إلى سمعى صوت الراحل عبد المطلب وهو يقول (ودع هواك وانساه وانسانى ..عمر اللى راح ماهيرجع تانى).. كان حلم وضاع .. تنبهت واستيقظت .. اسكت الصوت .. وعدت مسرعا إلى التليفزيون لتتوالى أمامى مشاهد القتل والحرق والتهديدات والحروب والتدنى الإنسانى ..فعرفت أننى الآن فى عام ٢٠٢٠ .. تيقنت بأن هناك فارقا كبيرا .. وأن المسافة التى قطعتها فى مشوار عمرى لم يعد متبقيا منها إلا القليل جدا .. وقد أوشكت على النهاية .
آراء حرة
الماضي يطرق الحاضر بشدة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق