الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نافذة الذكريات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
للأماكن رائحة تهب كلما مررنا بها، فتفتح لنا نافذة على الماضي وتمنحنا مفاتيح الذكريات لنستعيد مشاهد أيامنا الحلوة، وكأنها تكافئنا أن تذكرناها فتغني لنا مع فيروز: زوروني ولو كل سنة مرة.
وأنا بسيارتي في طريقي إلى مصر الجديدة ــ مكان طفولتي وصباي ــ مررت بمنطقة النزهة الجديدة فأحزنني ما آلت اليه تلك الملاهي وقد كانت وقت إنشائها منذ سنوات عديدة، من أحدث الملاهي التي تضم ألعاب جديدة ومبتكرة لم نرها من قبل، عندما رأيت عربات الهدم تسوي مبانيها بالتراب، والألعاب العملاقة تنحني بمذلة الزمن الذي جار عليها فتلامس جبهتها الأرض من شدة طرق المعاول الضخمة.
هبت رائحة المكان وصافحتني بشوق وفتحت لي نافذة على مدينة الملاهي التي طالما ارتدناها في الماضي، كانت تدهشنا التقليعات المبتكرة وقتها ومنها استوديو الشخصيات القديمة، أدخله وأرتدي الملابس الفرعونية أو ملابس شهر زاد أو أي من الشخصيات التراثية المعروفة بكل تفاصيلها ويلتقط لنا المصور صورا بديعة مازلت أحتفظ بها حتى الآن، نستمتع بالألعاب الجديدة وخاصة اللعبة الدوارة العملاقة التي تقف بشموخ في مدخل المدينة، تحمل اللعبة عدة عربات صغيرة معلقة تتسع كل واحدة منها لفردين على مقعدين متقابلين وبكل مقعد حزام جانبي كما حزام الطائرة لتثبيت الراكب بالمقعد، تدور اللعبة وتصعد بنا إلى عنان السماء في عدة دورات حتى ينتهي الوقت المحدد لها.
رأيتني وأنا في العقد الثالث من عمري، أركب واحدة من تلك العربات ومعي ابنتي وابني، ابنتي سبع سنوات، أجلستها وثبت لها الحزام بعناية، وأخذت ابني ذو الأربع سنوات في حضني وجلست قبالتها، بدأت اللعبة في الدوران وصعدت بنا وضحكاتنا تدق أبواب السماء الأولى من فرط الإثارة، تقلدني ابنتي وترفع يدها لأعلى لتلمس السحاب وابني يتشبث بي ويخفي وجهه في صدري.
انتهى الوقت المحدد وتوقفت اللعبة عن الدوران وبدأ المشرف يساعد الراكبين على النزول من العربات بالتوازي وليس بالترتيب ليحفظ للعبة توازنها، حللت عقدة الحزام وأنزلت ابنتي ثم نزلت أنا وابني حتى نبهتني صديقتي التي كانت تركب في العربة التي تسبقنا أنها لم تلتقط صورة لنا ونحن بالعربة، فوضعت ابني بالعربة مرة أخرى وهممت بالصعود اليه لنلتقط الصورة سريعا، فإذا باللعبة تدور وترتفع بإبني وحده دون حزام يثبته بالمقعد.
أصرخ "أحمد" والعربة ترتفع عن الأرض، أحاول التشبث بها فترتفع أكثر وتفلتها يدي فأقع على الأرض، تنخلع عيني من مكانها إلى حيث ابني، مرعوبة أن يطل من العربة فيسقط من هذا الارتفاع الشاهق، أهرول إلى المشرف وأشرح له الموقف وأتوسل اليه أن يوقف العربة، فيداهمني بالحقيقة: إن أوقفتها كيف ستصعدين اليها؟ لا بد أن تأخذ دورتها فهي لا تعود للخلف، ثم أنها مسئوليتك وليس خطأي، كيف تتركينه وحده بالعربة؟ صرخت بهستيريا وسقطت دموعي المنهارة وتعلق قلبي وأعين المحيطين بي بالعربة الدوارة، يتابعونها مثلي بخوف وقلق وألسنتهم تلهث بالدعاء ألا يطل الطفل منها فيسقط من علٍ.
أشحت بوجهي عن النافذة حين وصلت إلى بيت خالتي بمصر الجديدة، فتلاشت الصور من أمام عيني، فقد أعتدت أن أزورها كل حين منذ أن سكنت في منطقة أخرى بضواحي القاهرة، وقبل أن أترجل من السيارة، رن الهاتف، فظهرت صورته على الشاشة، أجبت بلهفة: أحمد حبيبي، وحشتني يا قلبي، أنت بخير؟ افتح الكاميرا، أريد أن أرى آدم حفيدي.