ذكرَ القشيري في رسالتهِ، قائلا: تعامل القرن الأول من النّاسِ فيما بينهم بالدّينِ، حتى رقّ الدّين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاءِ حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءةِ حتى ذهبت المروءة ، ثم تعامل القرن الرّابع بالحياءِ حتى ذهب الحياء ، ثم صارَ النّاس يتعاملون بالرّغبةِ والرّهبة..
جلستُ في قريتنا ذاتَ مرةٍ بجوارِ جدارٍ قديم ، متآكلٍ يوشك أن ينقضّ ، اقلب صفحات كتاب في يدي ، وبصري موزّع ما بينه وبين ذاك الجدار، طرقت ساعة، وإذ بصوتٍ اجشّ، ونبرة قوية لم آلفها من قبل، يُلقي عليّ السّلام، رفعت رأسي غير مكترثٍ للمار، لأجد أمامي رجلا في هيئةٍ غريبة ومسحةٍ اعجب، سألت نفسي: تُرى، هل انشقّ عنه الجدار، أم هبط علينا من السّماءِ..؟!
اقترب مني هنية ، وقد ارتعشت ابتسامة ذابلة على شفتيهِ، وهو يمسح المكان بعينين متأملتين، ثم قال بلهجةٍ مستحثة: هل أنت من سكانِ هذهِ القرية يا سيدي؟
تلفّت من حولي مُتعجّبا، وأنا اكتم ابتسامة مشققة، لكني لم أجبه، فعاد ثانية يكرّر سؤاله بصوتٍ غالبته ارتعاشة وداخله تهدّج، وعيناه تصدران نظرة لامعة، أجبته بتلطّفٍ: نعم، أنا من هنا.. يلزم خدمة ..؟
افترّت شفتاه عن ابتسامةٍ هادئةٍ حلوة كالبدرِ، نديةٍ كالفجرِ، وانبعث على حينِ غرةٍ بريقا من مقلتيهِ، همس قائلا، وقد تضرّج وجهه بحمرةِ الخجل: إنني من جملةِ الأغراب عن هذه الأقطار، نأت بي الأسفار، جئت من مكانٍ بعيد ، اريدك أن تصحبني في جولةٍ.
اغلقت كتابي، ثم رنوت إليهِ رنوة استغرابٍ، وقلت: وماذا تريد من قريتنا أيّها السّائح الغريب، ولكن حدثني أولا، من أنت، ومن أي زمانٍ ومكانٍ أتيت ..؟
سرح قليلا في الفراغِ أمامه، ووشى صوته بإعجابٍ واضح ، وردّ: أنا من عهدٍ مضى ولن يعود، وزمانٍ انقضى ولن يعقب ، فلا تشغل بالك، لا عليك باسمي ورسمي، فلا فائدة تُرجى.
قلت له بعدمِ اكتراثٍ: وماذا أقول للنّاسِ ساعتئذٍ إذا سئلت عنك، أنت لا تعرف أهل قريتنا يا صاح، الفضول لديهم دين ومعتقد.
رد بثباتِ الواثق: اطمئن فلن يراني غيرك يا فتى.
زادت دهشتي، خُيّل إليّ أني لمحت ابتسامة على شفتيهِ، فانشرحت لها نفسي، وإن ظللت في اطراقي، قلت له: هيّا بِنَا، وليكن ما يكون.كانت شمس العصرية السّاخنة قد تسلّقت الجدران، شرعت تلملم جنودها المنتشرة منذ الصّباحِ فوق البيوت، سِرنا سويا بين الدّروبِ الضّيقة والأزقة الملتوية، فما إن توسّطنا إحداها حتى كنّا على موعدٍ ومشاجرةٍ كبيرة، نشب خلاف بين جارتين، تطوّر ليصبح قتالا بين جيشين عظيمين، استعملت فيهِ مختلف الأسلحة من "شوم" و"سنج"، بهت صاحبنا في مكانهِ، امسك مخلته المعلقة فوق كتفهِ، وتنحّى بنفسهِ جانبا تحت جدارٍ يتابع المشهد، عندها كانت الأصوات قد علت، والشّخير قد تناثر في كُلّ مكانٍ، وافترّت الحُنوك عن غلاظ الشتائم، واقذع السِباب، لم يترك القوم في قواميس البذاءة ومفردات الوقاحة مفردة إلا اتوها، تلا ذلك وصلة منتقاة من الردحٍ المسجوع، أنبرت كُلّ جارة تُعاير جارتها بتاريخها المُشين، انفجرت بالوعات الماضي الأغبر بعلاقاتهِ الفجّة، نظرت إلى صاحبي فوجدته وقد دسّ وجهه بين كفيهِ يستغفر الله تعالى، اقتربت منه متسائلا: ماذا بك يا صديقي؟
رد مبهوتا يحاول التقاط أنفاسه، ثم اخرج من جرابٍهِ قربة ماء، دَلَقَ منها شربة، ونثر فضلة فوق وجهه المصفرّ، ثم قال متأسيًا: أواثقٌ أنت أنّنا في قرى ريف مصر العظيم ، بقيمهِ الأصيلة ..؟!
قلت وأنا أهزّ رأسي مؤكّدا: نعم، هو بعينه، فما الغريب في الأمر؟!
وقبل أن اكمل كلامي، انهالت علينا الأحجار من كُلّ حدبٍ وصوب، فقد بدأت على ما يبدو المعركة الفعلية، بعد أن انتهت مرحلة الكلام، هرب الرّجل مُسرِعا، وهو يمسك طرف عباءته، مستغيثا بصوتٍ يملأه الفزع والرّهبة، الغوث.. الغوث.. إلحقونا.
أسلم المسكين ساقيهِ للرِّيحِ، وما كان مني إلا أن لحقته، فالرّجل من جملة الغرباءِ، وهو في عهدتي حتى يرحل.
أخيرا لحقت بصاحبنا، كان الهلع قد استبدّ بهِ أيّما استبداد، دارت عينيه في محاجرها دورة المُغشى عليهِ من الموتِ، تلاحقت أنفاسه المكروبة، وأزيز صدره يتقادم بقوةٍ، ليتحول إلى ما يُشبه الصّفير، ران الصّمت بيننا للحظاتٍ، قبل أن يتمالك الرّجل أعصابه، أصبح وجهه شاحبا يلعب بهْ الرّجاء، يلعن حظّه العاثر الذي ساقه إلى هذا القضاء المحتوم، حتى الآن لا يصدِّق نجاته، أنّه على قيدِ الحياة، تفحّص جسده مرارا ، ثم حمد الله على السلامة.
كانت السّماء وقتئذٍ قد بدأت تُخرج نجومها ، تنثرها في الفضاءِ الذي زحفت إليهِ ظلمته دون سابقِ إندارٍ، وها هي القرية تتهيأ لا ستقبال جحافل الليل، هبّت ساعتئذٍ رياح باردة لطّفت الأجواء الملتهبة، عندها طلب صاحبنا أن نكمل جولتنا ولكن على حذر، كانت رغبته عارمة في استنشاق ِ الهواء السّاري في المكانِ، بدى وكأنّما يشعر بنشوةٍ كُلّما انفسح الأفق من أمامهِ، لم نبتعد كثيرا، قادتنا خطواتنا لأحد الشوارعِ الرئيسة في القريةِ، وتحت "عامود" إنارة، اجتمعت زمرة من شباب القرية، مشى صاحبنا الهوينة يُطالِع، وعشرات الأسئلة تبحث عن إجابةٍ في رأسهِ، ارتسم على محياه الفضول أن يعرف، لكنّه آثر المضي في الأخير، وقف منهم غير بعيد، أخرج ورقة من مخلته، ثم انتزع محبرة وريشة وسارع في تدوين ملاحظاته، اقتربت منه عساي أن أعرف ما يكتب الرجل، لكن ظلام المكان حال دون غرضي، وفجأة علت الأصوات بالسباب، تراشق الفتيان بأقبحِ الأوصاف بصوتٍ جهوريٍ رنان، اقترب صاحبنا مني في ذهول، يستفسر عن معاني بعض الكلمات، فهي لا أساس لها في قواميسِ اللغة التي يعرفها، كابدت ابتسامتي، قلت له: هذه شتائم عصرنا يا سيدي، موضة تفشّت بين شباب الريف تقليعة يحرص عليها الجميع هذه الأيام .
حدّق الرجل طويلا، وهو يحدج الفتيان في إزدراء، وقال: هل وصل الحال بقرانا لهذا المنحدرِ السيئ، كيف تردّت أخلاقنا، كيف يسير النّاس من حول المستهترين دون إنكارٍ أو توبيخٍ أو ردع، يالسخف الأقدار.. ويالسوء العاقبة.
امتقع وجهه أسفا وكمدا، وبدأت العبارات السقيمة تنسحب من بين فكيهِ، يُضرب كفا بكف، يتأسف بعد أن أضحت نفوس الناس، وأخلاقهم لا ترتدع برادعِ الدين أوالحياء، كيف تحوّلت قرانا مصدر العفة والحياء لهذه الأوحال، وهل يملك ابن الطبيعة من حطام دنياه؛ إلا ميراث أجداده من الشرف والفضيلة.
اكفهرّ وجه الشيخ، طلب مني على عجلٍ مغادرة المكان، والزفرات تفيض من صدرهِ، ينظر إلى عبث الصبية في لهب ِ النار المتوقدة.
مشينا سويا، والرجل يُقلِّب بصره في وجوه المارة من حوله، قضينا شطرا من الليلِ على هذه الحالة من التأملِ.. وهو مستغرق في صمتهِ، موزّع البال بين يأسهِ وأمله.
تحوّل السكون من حولنا إلى نبراتٍ مضطربة، مشينا بضع خطواتٍ في بعض الأزقة الضيقة، راق للشيخ سكون المكان، تراءت إلينا أنوار مطلة من نافذة منخفضة، وصيحات فرحٍ عالية، وضحكات مجلجلة، شخص ببصرهِ ، ثم تسللت إلى وجهه العابس بشائر الابتسام، قال منشرحا: يبدو أن هذا المنظر سيعوض ما لقينا في تجوالنا اليوم من مآسي وكرب، فما أجمل الابتسام، وما أعذب الضحكة إذا صفت وخرجت من القلب، ما أحوج الناس لأن يجتمعوا هكذا في ودٍ وصفاء، دون مأثمٍ أو رذيلة.
اقترب صاحبنا من النافذة قليلا، ألصق صدغه بها ثم أخذ نفسا عميقا، فجأة تراخت أعصاب، ثم ترنّح في مكانهِ واختلّ توازنه، اقبلت نحوه مذعورا مكروبا، لكنّه اشّر بيده، أن اطمئن، عاود شمّه مرات ومرات، وفي كُلّ مرةٍ يتعالى ضحكه في هستيريا ومجون، اذهب عن الشيخ وقاره الذي كان، وطوّح بحشمتهِ بعيدا، ألقى عن كتفهِ مخلاته، وجعل يدور ويرقص ويصفق ، توالى ضحكه المستفز ثم من بعده تطاير صفيره، ثم قفز في الهواء، اندفعت نحوه احاول تلهيته واسكاته، فالوقت متأخرا ، وأخشى من افتضاح أمرنا حال استيقظ الجيران.
كانت رائحة غريبة تعبق المكان، تتقادم سحب الدخان الكثيف من النافذة مخلوطة بحديثِ القوم وصلصلة ضحكاتهم الماجنة، ما إن تُلامس أنفك حتى تحملك في نشوةٍ نحو عوالم سحريةٍ، اكتشفت لاحقا أن أحد أبناء القرية اتخذ بيته مناخا للأنسِ والصهللة، يقصده الصّحب على مرأى ومسمعٍ من أهلِ القرية والقرى المجاورة، ليجدوا في رحابهِ المزاج والسلطنة، دون إنكارٍ من أحد، ولا يجد هو فيما يفعل ما يدعو إلى الخجلِ أو الحياء، إذ كيف له أن يخجل وقد اعتبر أن في هذا سلوك الرجال الأصحاء، والأصدقاء الأوفياء الذين يقدروا للصحبةِ قدرها.
لا يرى للجار احترام، ولا يرعى للشرف ِ والفضيلة حقا، يُجاهِر دائما: أنّه بيتي وأنا حر فيه، أفعل ما أشاء، وقتما أشاء..
ظلّ صاحبنا يهزي بكلامٍ غير مفهوم، في وصلةٍ " فرفشة" لا تنتهيم، امتدت ساعات الليلم، قبل أن امسكه واذهب بهِ ناحية الترعةم، اوقفته بجوارِ البئرّ، وبدأت انثر عليهِ من ماءها البار ، وبعد قليلٍ استعاد الرجل وعيه، ومن سكاتٍ جمع أعراضه المتناثرة، وأشار بيدهِ مودّعا، وقبل أن يختفي عن ناظريّ توقّف وسط الطريق، وقال بحنقٍ وغيظ: حقيقي إللي اختشوا ماتوا .....
ثم ذهب ولم يعد ..