الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحرب النبيلة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وُلد جدي رحمه الله في عام 1917م في الإسكندرية، وعاش عمرًا مديدًا مكننا من أن نمضي معه وقتًا تستطيع ذاكرتنا أن تسجله، إذ ولدت وجدي في السبعينيات من عمره. استطعتُ أن أكون صديقته في الثمانينيات من عمره الجميل. كان هادئًا راضيًا متفائلًا دائمًا. يحب الحياة ويحب أن يكون صديقًا لها. لم تمنعه جلطة حجبت ساقه اليسرى عن الحركة من الاستمرار في أداء تمرينات الصباح حتى نهاية حياته. لم ينسَ يومًا ما الحرب في الإسكندرية. لم يكن جنديًا في أية معركة. لم يسمح له عمره ولا كونه وحيد أبويه بذلك. إلا أنه حمل المؤن إلى أبطالنا على خط القناة وهو في الأربعينيات من عمره، في مهماته الرسمية وفق تعليمات البنك الذي يعمل به ويمون الأبطال.
الحرب ليست لعبة، وليست مبنى تدخله من باب وأنت تعلم أنك ستخرج من الباب الآخر. فالدول تدخل الحروب مرغمة وتخرج منها بسيناريوهات قد تخالف كل توقعاتها. والجيش المصري جيش وطني لم يعتد أبدًا على آخر. لكنه كان مدافعًا شرسًا عن حدوده بعقيدة نبيلة طالما تحدث عنها الكثيرون. ويثق به المصريون دائمًا ثقة لا حدود لها، إذ أنهم أخوتنا وأبناؤنا وآباؤنا. يدافعون عنا بعقيدة وحب. وتذكرت مع الأحداث التي تقع هذه الأيام ما كان يرويه جدي عن الحربين العالميتين الأولى والثانية. 
كان جدي سكندريًا لم يغادر الإسكندرية إلا في الثلاثينيات من عمره، شهدت الإسكندرية أحداث الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) حيث وقعت البلاد تحت وطأة الأحكام العرفية طوال فترة الحرب واستنزفت بريطانيا الموارد المصرية وحكمت البلاد حكما عسكريا قائما على البطش طوال فترة الحرب. كما شاركت الإسكندرية بكل فعالية واقتدار في أحداث ثورة 1919 حيث تم انطلاق المظاهرات من مسجد أبى العباس المرسي مرات عديدة واتجاهها صوب مبنى المحافظة القديم بشارع رأس التين هاتفة بالحرية والاستقلال وقد استجابت بريطانيا أعقاب تلك الثورة لبعض المطالب المصرية بشروطها في تصريح 28 فبراير 1922م وكان لأحداث الإسكندرية أكبر الأثر في تحقيق ذلك كما تعرضت الإسكندرية لضغوط الاحتلال البريطانى في فترة ما بين الحربين العالميتين على الرغم من عقد المعاهدة البريطانية – المصرية في 1936م التى حاولت من خلالها بريطانيا أن تمهد الموقف في مصر لدخول الحرب العالمية الثانية (1939-1945م). 
عندما قامت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939م أصبحت الإسكندرية قاعدة للأسطول البريطانى في البحر المتوسط بل أكبر قاعدة عسكرية في نطاقه كما استخدمت بريطانيا المطارات المصرية وأصبح خط حديد إسكندرية – مطروح من أهم الخطوط الحربية بالنسبة لبريطانيا وكذلك الطريق البري بين المدينتين والطريق الصحراوى بين الإسكندرية والقاهرة. وقد تعرضت الإسكندرية لغارات الإيطاليين والألمان نظرا لموقعها الاستراتيجى وذهب ضحية هذه الغارات عدد من المواطنين الأبرياء وعندما اشتد هجوم الألمان غربي مصر ودفعوا أمامهم القوات البريطانية حيث وصلت قوات المحور إلى موقع العلمين غير أن الزحف الألمانى توقف عند استحكامات العلمين أمام قوى الحلفاء المستندين إلى القاعدة البريطانية في الإسكندرية حتى اندحرت قوات المحور سنة 1943م. 
وقد شهدت الإسكندرية بعد ذلك مولد الجامعة العربية في نهاية الحرب العالمية الثانية حيث وقعت بها الوثيقة الأولى في بناء الجامعة في 7 أكتوبر 1944م فيما عرف «ببروتوكول الإسكندرية». 
تجد كل ذلك موثقًا في المواقع الرسمية لمحافظة الإسكندرية في لهجة فخر واضحة. ووجدت هذا الفخر في كلمات جدي، في نبذهم لمن يجدون لديه منتجات إنجليزية، في ملامح الخوف الشجاع التي ترتسم على وجهه حين يقص قصص الغارات واللجوء للمخابيء، في انضمام أجانب الإسكندرية لدعم مباديء المصريين النبيلة في تلك الأوقات، في غارات «الطليان غير المحترفة» على حد قوله، في أخبار هزيمة الألمان في العلمين، ظل جدي شامخًا في كل القصص، كشموخ مصر التي لم تعتدِ ولم تضيع خلقًا نبيلًا. جيش من الأقوياء النبلاء طوال الوقت. حمى الله مصر.