لم يهدأ لي بال منذ اتصلت بي صفاء، قالت إن إحدى الزميلات الصحفيات دلتها على طمعا في مشاركتي في مساعدة عاجلة يتم جمعها حتى تتمكن من سداد مصاريف مدرسة ابنتها سارة بعد أن توقف طليقها عن دفع المصاريف وبعد انتهاء مهلة وراء أخرى أنذرتها بها المدرسة.. وما أرقني أن صفاء وابنتها طردهما صاحب الشقة لعجزها عن سداد الإيجار بعد توقف دخلها الوحيد الذي كان يسترهما بسبب تعذر استمرار العمل منذ حلت جائحة كورونا حيث جاءها الفصل بكلمات قليلة لكن وقعها عليها كاللطمات من صاحبة الحضانة تخبرها بأن شهر مارس هو الأخير لها في ضوء قرار الإغلاق حماية للأطفال من خطورة العدوى بالفيروس.
ذهبتٌ بعد يومين من هذا الاتصال إلى مكتب البريد لإرسال مبلغ المساعدة فهو الطريقة الأكثر أمانا لإرسال حوالة في زمن كورونا. وبمجرد أن ذكرتٌ للموظف إسم صفاء بالكامل وقبل أن أملي عليه رقم بطاقتها تلا علي عنوانها بالكامل وذكر لي أنها تتلقى حوالات باستمرار.
أقلقني تعليقه ودخل الشك في قلبي خوفا ممن امتهنوا طلب المساعدة فقررت أن أذهب إليها بنفسي حتى أتأكد من ظروفها. واكتشفت عندما وصلت إلى عنوانها أنها تقطن بشكل مؤقت لدى والد زميلة ابنتها سارة في المدرسة والذي علم بظروفها وأعطاها غرفة بعد أن طردت في الشارع وذلك لحين تدبير حالها.. كان لقاء خاطفا وتكرر اللقاء بعد شهرين حيث عرضت عليها اصطحابها إلى محكمة الأسرة عند نظر قضيتها الغريبة التي رفعها ضدها طليقها.
جلست في انتظارها بينما كانت صفاء ترتدي ملابسها بتأني وهي تتلعثم في محاولة لاختصار قصتها بينما يأخذها خيالها عشرات المرات إلى رواق محكمة الأسرة دون أن تستطيع أن تمسك بخيط واحد تبدأ به سرد قصتها وكيف ستشرح للقاضي سبب رفع زوجها دعوى إنكار نسب إبنتهما سارة. تطارد بخيالها كافة الأسئلة المحتملة تطرحها بصوت مخنوق لتحضر أجوبة مقنعة بينما تبحث عن قلب يرق لقصتها.
وتدخل عليها سارة تستحثها للإسراع بالخروج حتى لا يتأخران عن موعد الجلسة، فانتشلتها من روحها الحائرة وخيالاتها المرتبكة وبنظرة سريعة أشعرتها سارة أن الفستان الذي ارتدته سوف يُقصي أي تعاطف تنتظره من القاضي أو هكذا ظنت الطفلة، فتنهمك مع والدتها تعاودان بعثرة صٌرة الملابس التي اشتكت من الثياب الرثة التي تحويها. لكن دون جدوى فتستسلم صفاء وتحاول إصلاح هيئتها وتعويض رقة ثوبها بتلميع حذائها حتى تعيد له بعض لمعانه وتداوي رونقها الجريح، ثم أخذت في تسريح شعرها الطويل المنساب وإخفاء الخصلات البيضاء المتسللة إلى مقدمة رأسها المشتت.
طوال الطريق إلى المحكمة الأسرة يتملك صفاء حزن دفين لم يعد غريبا عنها وهي تروي حكايتها وتقلب مواجع أيام حياتها الماضية منذ تزوجت بمحمود الكشر موظف على درجة مدير عام بإحدى الوزارات وما تجرعته من بخل وتقتير في المعيشة والمشاعر، سرعان ما تحول إلى عنف جسدي واستغلال استحالت معه الحياة تحت سقف واحد، خاصة بعد أن طال الضرب طفلتها الصغيرة. فاضطرت إلى طلب الطلاق الذي نالته بعد جلستين فقط، بمجرد أن اطلع القاضي على التقرير الطبي والعجز الذي طال إحدى عينيها وشوهها إلى الأبد.
لكن فرحتها لم تكتمل، فساد الجينات لايصلحها الزمن، حيث تمادى طليقها في ألاعيبه وحيله وتهرب من تنفيذ كافة الأحكام التي صدرت لصالح صفاء من سداد مؤخر الصداق المثبت في عقد الزواج وقدره عشرين ألف جنيه، ونفقة المتعة ونفقة العدة، ونفقة الطفلة مضاف إليها مصروفات التعليم حيث كانت سارة تدرس في مدرسة خاصة. ورغم ضعف القيمة التي قدرها القاضي لنفقة الإبنة والتي لاتزيد على مائة وخمسين جنيها فإن الكشر - كما يناديه جميع من يعرفه- استطاع أن يخفي الصيغة التنفيذية للحكم بمعاونة موظفين فاسدين حتى يستحيل اتخاذ إجراءات الحجز عليه وبالتالي يفلت من سداد نفقات سارة!
وهكذا ظلت صفاء تائهة في أروقة المحاكم دون أن تتسلم أصل الحكم وصيغته التنفيذية. وعاجلها الكشر بلطمة أخرى أشد وطأة دون ضمير أو رادع فرفع قضية إنكار نسب إبنته للكيد بطليقته بعد أن ظن أنها ستقضي عليها وتستسلم عن ملاحقته.
تأملت سارة والدتها فتسربت من نظراتها شظايا قصص ماضيهما الحزين لتندس داخلها تحرق طفولة سنواتها التسعة. لكنها سرعان ما انتفضت وضمت يديها تطبقهما على صدرها وكأنها تستدعي كبرياءها لتطرد تلك الذكريات المؤلمة التي جف قلبها الصغير بما ذرف من دموع كالمطر في لياليها العاصفة.. سارة قررت منذ وقت أن تدفن الحزن في مقبرة ماض لم تصنعه أو تشارك فيه. ثمة خسارات كبيرة إلى حد لا خسارة بعدها تستحق الحزن!
كلمات سارة رغم صغر سنها تنطق بالحكمة التي تعلمتها من ثقل المحن؛ أما صفاء فمازالت أسيرة في مواسم الحزن الذي لا ينتهي وهي تدرك أن دعوى إنكار النسب التي رفعها الكشر للتنكيل بها لن تكون آخر مواعيدها مع الحزن، فالأب الذي يتجرأ أن يدعي أمام القاضي أنه عاجز عن الإنجاب لينفي نسب إبنته بعد أن سجلها بنفسه قبل تسع سنوات في دفتر مواليد الصحة لا يمكن أن يرتوي حقده.
مرت الجلسة في يسر ولم تحتج صفاء أن تحكي بكثير من الجهد وأجابت على أسئلة مقتضبة من القاضي وكأنه يعرف محمود الكشر وأمثاله وما يفعلون بأسرهم في سبيل التهرب من مسؤولياتهم لذلك طلب من المحامي حضور صاحب الدعوى بشخصه وله في ذلك شأن يعرفه جيدا وحدد جلسة قريبة.. وانصرفنا من قاعة المحكمة التي كانت تموج بسيدات وأطفال كما العواصف في بحر غاضب. وسرحت طوال طريق العودة في سؤال القاضي المفاجيء: كيف تزوجت هذا الكشر؟ صفاء تزوجت ذات صيف قبل عشرة أعوام. تعرفت على الكشر عندما كان يأتيها إلى الإسكندرية - حيث تقيم مع والديها- رسولا من طرف صديقة والدتها هي كل ما بقي لها من سيرتها بعد وفاتها، وكان يحمل معاشها.. ثم جاءها ذات يوم ليعزيها ويعرض عليها الزواج.. وفي خلال عام بالضبط بعد الزواج كانت صفاء قد باعت شقتها وكل ما ورثته من والديها ليبدأ نزيف الخسائر والأحزان!