الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الشريف الذهبي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى أوائل الأربعينيات، كان مجيء الفرنسيين لإدارة فزان (جنوب ليبيا)، قد ألقى بظلال قاتمة كئيبة، فساعة استعمروا واحة براك المركز الإدارى لواحات وادى الشاطئ،عقب المُحتلين الإيطاليين، بادروا بمعاملة تعسفية، وزرعوا الرعب فى كل أنحاء الواحة، وكان جدى الزروق قد علم بسجن ثلاثة من رفقته، تُهمتهم أن جرى كشفهم ساعة ردموا سلاحهم فى مخبأ بأطراف الواحة، وقد اكتشفتهم عين وبلغت عنهم، وأُعلن عن عقوبة قاسية هى الإعدام، لمخالفتهم الأوامر بعدم الاستجابة لنداءات تسليم الأسلحة. وكان وفد تألف من شيخ الواحة، وبعض رجالات الأحياء الأربع لبراك (الزاوية، المصلى، القصر، العافية ) إذ عرضوا فدية بمقابل إطلاق سراح أصغرهم «الشريف الذهبي»،لكن مسئول السجن رفض رفضا قاطعا، معيدا عليهم جُملته: أن لا فصال فى معاقبته، من استطاع مقابلة «الذهبي» نقل وصيته بعد أن وصف روحه المعنوية العالية، والتى تمثلت فى جملة واحدة، فحواها: أنا لا أخاف الموت، فقط أحسنوا دفني، وكأنه أحس ببشاعة ما سينفذه الفرنسيون من تعذيب جسدي، ثم التمثيل بجثته، وكانوا عقب إعدامه أخرجوا الأهالى ليشاهدوا درسا لهم، بأن لا يتجرؤا على مخالفة الأوامر. كان جدى يوم أُعتقل رفيقه المجاهد «الذهبي» قد حمّل والدى حبات من التمر وجرة ماء، والذى استطاع الإفلات من مراقبتهم، إذ ظنوا أنه صبى يتمشى لاهيا، ومع اقتراب ظلمة الليل دفع باب سجن «دار قوزايا» وكان من سعف النخيل، ودخل عليهم وبلغهم سلام جدى وأمانته، روى أبى أنهم كانوا صامتين، وبادرهُ الشريف الذهبى وربت على كتفه، واحتضنه، ثم دفعه بعدها مشيرًا بيده إلى أن غادر سريعا، سرق النظر إليهم متعجلا فوجدهم يناولون بعضهم ذلك الزاد..وفى الواحة أخذ المحتلون من الجنود الفرنسيين راحتهم فى الحركة والتنقل كل وقت، وفى استباحة لكل بقعة،غير مُراعين لحرمة بيت، أو حياض الزرائب والحظائر، وجداول الزرع، ما عمرت ببعض من الخضار التى اعتاش الأهالى منها، فقد تقاسم غصبًا الفرنسيون كما الطليان محاصيل أهالى الواحة.
تلك سيرة غابت، ولم تدون فى سجلات الجهاد الليبى «مرويات الذاكرة الشفوية»، ولم يُدرج أسماء هؤلاء الشهداء الأبطال فيها، وقد أعلمنى الأستاذ زايد أبوبكر فنير أن خاله «السنوسى مرسيط» كان رفقة الشريف الذهبي، وأعدم أيضا فى ذات اليوم، كما لم يطالب النظام السابق، فرنسا بتعويض عن حقبة من الاستعمار لجنوبنا، مارست فيه السلطة الاستعمارية الفرنسية ضيما وعسفا على كل سكان واحات الجنوب. 
ومن ذاكرة والدى أيضا: حين كُنا وجيراننا فى بعض الليالى نفترشُ الأرض، ويظللنا قمر الصحراء، تحمست راوية الواحة «زينب بارينا»، وبدت تُشيد بشجاعة شقيقتى الكبرى «نفيسة»، التى غابت عنا يومها، تحسبا لغضب أو ملامة منا أخوتها أو من زوجها،أو ربما لاعتبارٍ مُجتمعى مُحافظ، فقد سربت قريبةٌ للخالة « بارينا « الخبر، وكيف حملت شقيقتى منجلها وتصدت لأحدهم، إذ باغثهن المتسكع الفرنسى مُتحرشا، وهن يجمعن حبات التمر المتساقطة (النفيض)،وقد صاحت إحداهن: يا بنات..ألحقن..تعالن.. ما تباعدن...،جرت «نفيسة» فقد كانت أرشقهن حركة، وخمنتْ أن الصراخ إشارة إلى ملمة وأمر جلل مس رفيقاتها بغابة النخيل، حملت «محشتها» عاليا، وما إن بان عليها ذلك الفرنسي، حتى صاحت فيه لاعنةً فعلهُ، فما كان منه إلا أن أطلق ساقيه للريح، ما حمس البنات المُرتجفات لرفع ما وقع بأيديهن من حجر الأرض ورميه عقبه، وهنا قالت «بارينا» حمسَنا فعل «نفيسة»، ولنا مع بنى هلال ميعاد هلموا لنُكمل السيرة.