ما أعرفه هو أن الفن ابن الأدب، ابن القصة والرواية والمسرحية، فهذه الفنون الأدبية هي التي تُنتج لنا أعمالًا سينمائية ودرامية هادفة وراقية، تعكس قضايا المجتمع ومشكلاته، متناولة إياها بأسلوب مهذب وفكر واعٍ، يراعي الأخلاق والذوق العام والعادات والتقاليد السائدة؛ ومن ثم يرقى الفن بالفكر ويسمو بالنفس ويغذي الروح، وينقى المجتمع من آفاته.
هذا ما أعرفه، أما ما لا أعرفه، هو أن يكون الفن ابن (قلة الأدب)، فهي ليست أبًا شرعيًّا له، فالأعمال التي تبُث سمومها في المجتمع لا يمكن أن تسمى فنًا، إنه ولد غير شرعي، يعيث في المجتمع فسادًا، لا يراعي أدبًا ولا قيمًا، يثير الغرائز بدلًا من أن يضبطها، لا تشعر معه ببهجة، ولا يشبع عقلك ولا نفسك، إذا فتشتَ فيه لم تجد شيئًا، إنما هباءً منثورًا يذهب أدراج الرياح.
ويحضرني الآن مشهد من فيلم ثرثرة فوق النيل، وهو عن رواية للأديب الكبير نجيب محفوظ، في هذا المشهد نجد تهكمًا على الفن الهابط، فرجب أحد أبطال الفيلم كان يغنى أغنية (الطشت قالي الطشت قالي.. يا حلوة ياللي قومي استحمي)، وحينما يُسأل من سناء، تلك الفتاة التى تريد أن تحترف فن التمثيل، عما ترمز إليه الأغنية، يقول: إنها ترمز إلى انقطاع المياه في الأدوار العليا، فتعلق سناء قائلة: يا سلام هو ده الفن الهادف يا أستاذ رجب!
كان هذا مشهدًا ساخرًا يُنتقد فيه الفن الهابط في سبعينيات القرن الماضي، ولم يعلموا حينها بما سيصل إليه الحال في الألفية الثالثة، فعلى أضعف الأحوال فإن أغنية الطشت قاللي يمكن اعتبارها من قبيل الفلكلور الشعبي، أما مقطع مثل: (أديك في الجركن تركن)، فماذا يمكن اعتباره؟! وبين الطشت والجركن يا قلبي لا تحزن!
والأغاني والأفلام والمسلسلات والبرامج التي على هذه الشاكلة كثيرة وتفوق الحصر، بل أصبحت لها الغلبة، وهذا أمر مؤسف محزن، وإذا سألتَ لماذا يتم إنتاج هذه الأعمال، قِيل: (الجمهور عايز كده)، لا يا سيدي، لا تنسب هذا الانحدار إلى المتلقي، لأنك أنت الذي تسببت فيه بالأساس بأعمالك التافهة، ولو كانت أعمالك ذات قيمة ما انحدر الذوق إلى هذه الدرجة المشينة.
إن الفن الهادف الراقي له تأثير كبير على شخص المتلقي، وعن نفسي أحب كثيرًا مشاهدة الأفلام السينمائية القديمة، أفلام الزمن الجميل، حتى إذا شاهدتُ الفيلم عشرات المرات لا أَمَلُّ من مشاهدته، بل أندمج معه وأعيش فيه، وأظل انتظر العبارات التي أصبحت علامة على الفيلم، فحينما أشاهد مثلًا فيلم شارع الحب، يتردد في ذهني تلقائيًّا عبارة (إنت اللي هتغني يا منعم) التي قالها الفنان القدير حسين رياض لعبدالحليم حافظ.
ومن منا يَمَلُّ من مشاهدة مسلسل المال والبنون أو مسلسل لن أعيش في جلباب أبي أو مسلسل يوميات ونيس، وغيرهم من الأعمال الفنية الاجتماعية الهادفة، التي لا تخدش حياء ولا تحض على مكروه، بل كانت تجتمع الأسر أمامهم للتسلية والمتعة في حب وسعادة، فلماذا قلَّت الأعمال الجميلة من مثل تلك؟ ولماذا اختفت القيم والأخلاق والحلال والحرام من كثير من الأعمال التي نراها اليوم؟!
لقد كان أبي الرجل الفلاح البسيط فيما مضي ينتظر برنامج سر الأرض الذي كان يأتي كل يوم جمعة بعد الصلاة، ليتعلم منه ما يصح وما لا يصح في أمور الزراعة، وكنتُ أنا وقتها انتظر عالم الحيوان وخواطر الشيخ الشعراوي، ولا أنسى كذلك برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود، هكذا كان للتلفزيون دور كبير في التثقيف والترفيه معًا، فأين ذهبت هذه الأيام الجميلة؟!
أعلم أن الزمان لا يعود إلى الوراء، وأن كل جيل لا يشبه غيره، ولكن يجب أن يظل الفن بعيدًا عن العبث، الفن بكل صوره وأشكاله، فهو القوى الناعمة التي تستطيع التأثير بسهولة في المجتمع وفي عقول شبابه، وهذا أمر خطير جدًّا إن لم يُحْسَن استخدامه.
إننا نريد فنًا حقيقيًّا، فنًا راقيًا ساميًا، ينهض بنا، ويترك أثرًا إيجابيًّا في أفعالنا، فنًا يكون غذاءً للروح، ويغرس فينا حب الخير والجمال والحق، فهذا ما نريده من الفن.