لم يكن المصريون يوما دعاة حرب وعدوان.. وإنما دائما كانوا دعاة سلم واستقرار.. ولم تكن مصر على مدى تاريخها الضارب في أعماق التاريخ.. دولة جور وبغي وتجاوز في حق أحد.. ولم تحرك جيشها إلا للدفاع عن نفسها.. وصد هجمات الغزاة والمعتدين.. الذين حاولوا المساس بأرضها وسيادتها.. فمنذ آلاف السنين.. كان جيش مصر الفرعونية.. أول جيش نظامي عرفته البشرية.. محافظا على وحدة البلاد وتماسكها.. مدافعا عن حدودها المترامية الأطراف.. من غارات البدو والرعاة الهكسوس والحيثيين وشعوب البحر والفرس والإغريق والرومان.. وكانت الإمبراطورية المصرية آنذاك.. تمتد من الأناضول شمالا إلى القرن الأفريقي جنوبا ومن الصحراء الليبية غربا إلى الفرات شرقا.
وفي العصور الإسلامية.. تحطمت جيوش المغول والتتار والصليبيين.. على يد الجيش المصري.. ولم تشهد مصر ضعفا إلا بضعف جيشها.. عندما استبعد الغزاة المحتلين أبناء البلد من الجيش.. ومنعوهم من حمل السلاح.. إلى أن جاء محمد على.. وأدرك أن المصريين هم خير من يدافع عن بلادهم.. فوضع نواة الجيش المصري الحديث.. الذي كسر الجيوش العثمانية.. وكاد يسقط دولتهم.
واليوم يسعى العثمانيون الجدد.. ممثلين في رجب طيب إردوغان وحزبه وأنصاره.. لإحياء إرث بغيض ومرجعية تاريخية مؤلمة.. تتمثل في إحياء الخلافة العثمانية.. التي مصت دماء الشعوب.. التي وقعت في قبضتها.. وفرغتها من كل ما هو نافع ومفيد.. وتركت أهلها يعانون الفقر والجهل والمرض.. وهم لا يخفون مسعاهم هذا.. بل اعترفوا به.. وأكده أحمد داود أوغلو أحد قادة حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي السابق.. في لقاء له مع أعضاء الحزب عام 2009.. حين قال "إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية.. هم يقولون عنا العثمانيون الجدد.. نعم نحن العثمانيون الجدد.. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا.. نحن ننفتح على العالم كله.. حتى في شمال أفريقيا.. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب.. وخاصة فرنسا التي تفتش وراءنا لتعلم لماذا ننفتح على شمال أفريقيا".. وقال إردوغان أمام الكتلة النيابية لحزبه.. في ديسمبر الماضي: "تركيا وبطبيعة الحال لديها محيط حضاري كبير.. والبحر المتوسط وشمال أفريقيا.. أحد أهم أجزاء هذا المحيط.. وليبيا إرث عثماني.. وكانت جزءا مهما من الدولة العثمانية.. وسنضحي بارواحنا من أجلها".
استغل العثمانيون الجدد ما حدث من فوضى بالمنطقة.. بداية من عام 2011.. وتدخلوا في العديد من الدول العربية.. وتحالفوا مع الإخوان المسلمين في مصر عندما وصلوا إلى سدة الحكم.. ليساعدوهم في تنفيذ مشروعهم الإستعماري الجديد.. ولكن الشعب المصري.. وبمساندة قواته المسلحة.. أحبط مخطط العثمانيين الجدد والإخوان.. بخروجه في 30 يونيو 2013 ليزيح الإخوان من الحكم.
ومنذ ذلك التاريخ.. وإردوغان وأتباعه وحلفاؤه.. لا يجدون فرصة لمضايقة مصر والتحرش بها.. إلا واستغلوها.. فعندما تحالفت دول الخليج ومصر ضد قطر لدعمها الإرهاب.. سارع إردوغان بإرسال قوات تركية إلى الدوحة.. بزعم حمايتها والدفاع عنها.. وعندما توترت العلاقات بين مصر والسودان في عهد البشير.. زار إردوغان السودان.. ومنحه البشير جزيرة سواكن على البحر الأحمر.. وعندما وقفت مصر إلى جانب استقرار ليبيا ووحدتها.. سارع إردوغان بارسال قواته ومرتزقته إلى ليبيا.. ليؤجج الصراع فيها.. ويهدد الحدود الغربية لمصر.. وعندما تحالفت مصر وقبرص واليونان لاستغلال مناطقها الاقتصادية في البحر المتوسط.. أرسل أساطيله للمياه الإقليمية القبرصية.. للبحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي فيها.. وعقد إتفاقية غير قانونية مع أحد أطراف الصراع الليبي.. لاستغلال السواحل الليبية اقتصاديا.
كل هذا الإستفزاز التركي.. هدفه مصر التي لم تسع لاستفزاز تركيا.. ولم تتواجد على حدودها.. ولم تعتد على مياه البحر القريبة منها.. ولكن يبدو أن السلطان العثماني الجديد نسي أو تناسى انهزام أجداده أمام الجيش المصري في الشام وفي تركيا ذاتها.. وأن مصر سترد وبقوة.. على أي شيء يهدد أمنها القومى.