تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
اختلفت المقاربات الدينية لجائحة كورونا وفقًا لاختلاف العقائد والممارسات الدينية، لكنها فى أغلبها لم تخرج عن رسم حدود العلاقة الجدلية اللامتناهية بين الدين والعلم، أو بالأحرى بين الإيمان الدينى بالغيب وإشباع الجوانب الروحية، وتفعيل ملكة العقل كملكة فارقة للإنسان، وربما كان تعاطى رجال الدين التقليديين مع الجائحة فى بعض البلدان له تأثيره السلبى القوى على الصورة الشعبية للدين، لا سيما لدى الأجيال الشابة؛ حيث تمادى بعض الدعاة فى تقديم وصفات وهمية لعلاج المرض، فى استغلال واضح لمشاعر الملايين من الناس بعد أن أصبح الدين الملاذ الوحيد لهم فى ضوء نقص الإجابات العلمية، وافتقاد القيادة الواعية، وشُح المطهرات واللوازم الطبية. فى هذا الإطار جاء الإسهام المهم واللافت للأستاذ الدكتور صلاح عثمان، أستاذ المنطق وفلسفة العلم ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية.
يرصد د. عثمان أنه فى العاصمة الإيرانية طهران مثلًا أصبح رجل الدين الشيعى الإيرانى «عباس تبريزيان» موضوعًا للسخرية لدى الشباب الإيرانى بعلاجاته الطبية الكاذبة، حيث نشر وصفة علاجية- دعا جميع المصابين بالفيروس لتجربتها- مؤداها وضع كرة قطنية مدهونة بزيت البنفسج على فتحة شرج الإنسان قبل الخلود إلى النوم، معتبرًا أن هذه الوصفة منقولة من السلف وكتب الطب وأحاديث رجال الدين الشيعة. وفى بيروت قام الكاهن المارونى «مجدى علاوي»- الذى تحول من الإسلام إلى المسيحية فى وقتٍ مُبكر من حياته- باستئجار طائرة خاصة ليطوف بها فوق لبنان قرابة ساعتين حاملًا القربان المُقدس فى قمرة القيادة، زاعمًا أنه يُبارك البلاد ويدفع عنها البلاء بتضرعه إلى الله. وقبل صعوده إلى الطائرة، سأله جُندى فى المطار عما إذا كان يحمل قناعًا واقيًا ومُعقم يد، فأجابه بقوله: «يسوع يحمينى.. إنه المُطهر الخاص بي».
وفى ميانمار أعلن راهب بوذى أن جُرعة واحدة من عصير الليمون مع ثلاثة بذور نخيل فقط كافية لتحصين مَن يتناولها من المرض، بينما شُوهد بعض الحُجاج فى إيران وهم يلعقون الأضرحة الشيعية لدرء العدوى بتوجيه من ملاليهم. كذلك الحال فى تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث زعم الداعية التليفزيونى «كينيث كوبلاند» قدرته على التطبيب عن بُعد Telemedicine، وقام ببثٍ حيٍ باسطًا يده المرتجفة ومُدعيًا إمكانية شفاء المؤمنين عبر شاشاتهم.
أما فى العالم العربى الإسلامى فقد اتخذ رد الفعل الدينى أنماطًا متباينة، وإن كان أغلبها قد انطلقت من فواجع قهر المسلمين فى الماضى البعيد والقريب على امتداد العالم، فى معية تجنيد الفيروس واتخاذه دليلًا شرعيًا على صحة بعض تعاليم الإسلام فى مواجهة العالم الغربي. على سبيل المثال، فى الوقت الذى تسابقت فيه الدول الغربية بُغية تطوير لقاح ضد المرض، عَمِدَ بعض الدعاة إلى تغييب العقل تمامًا «رغم كونه بُعدًا هامًا من أبعاد الإيمان» بالدعوة إلى الاستسلام للأمر الواقع باعتبار الوباء قدرًا إلهيًا لا حيلة للبشر فى دفعه.
وذهب آخرون فى بداية انتشار الوباء إلى أنه عقابٌ إلهى لدولة الصين جراء اضطهادها للمسلمين: لقد عزلوا «الإيجور» فعزلهم الله، وحين تجاوز الفيروس نطاق الصين ممتدًا إلى الغرب، أصبح الفيروس رسولًا لإغلاق بيوت الدعارة وبؤر البغاء والملاهى والكباريهات وصالات القمار وحلبات السباق وساحات الممارسات الرياضية والحفلات الماجنة. وحين انتقل الفيروس إلى العالم العربى الإسلامى اتخذ رد الفعل سمة البحث عن رسالة الفيروس التأكيدية لبعض المناسك؛ فالكمامة دليل على النقاب، والعزل دليل على حُرمة الاختلاط، والنصيحة الطبية بغسل اليدين دليل على الإعجاز العلمى للوضوء، وهكذا. لقد غفل هؤلاء فى ردود أفعالهم عن أن طاعون عمواس مثلًا قد تفشى فى عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وقتل ما يقرب من ثلاثين ألف مسلم من بينهم كثرة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلَّم، ولم تتخذ ردود أفعال المسلمين وقتئذٍ طابع السلبية والمغالاة كما هو الحال الآن.
مع ذلك، لم يخلُ المشهد الإسلامى من دُعَاةٍ جمعوا بين الإيمان والعقل، واتسم خطابهم الدعوى بالحكمة والتوازن فى مواجهة ما ارتأوا أنه خطرٌ يُهدد العالم بأكمله، ومن هؤلاء الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، الذى جمعت كلمته المتلفزة للناس بين التقرب إلى الله بالدعاء، ودعوة الأفراد والمؤسسات والدول إلى التكاتف وتحمل المسئولية فى مواجهة الوباء، وتشجيع الطواقم الطبية والالتزام بتوجيهات الجهات المُختصة، وتحريم اختلاق الشائعات، والأخذ بالأسباب مع الإكثار من الصدقات، واللجوء إلى الله.
لقد وضعت الجائحة رجال الدين التقليديين فى مأزق وحيرة حول كيفية تحديد رسالتهم وما يُمكنهم الإسهام به فى هذه الظروف العصيبة، وحاول بعضهم تجاوز المأزق بالترويج لمقولة التكافؤ بين النصيحة الدينية والنصيحة العلمية، مما يُذكرنا بالشعارات التى رفعتها الكنيسة الغربية حين اصطدمت بالعلم فى مطلع العصر الحديث!.