منذ ثلاثة أعوام قمت بنشر هذا المقال، ونظرا لاستمرار (البلطجة) التى تمارسها بعض الدول قررت إعادة نشره مرة أخرى.
كان المبدأ السائد في العصور القديمة هو أن (القوة تُنشئ الحق وتحميه)؛ فصاحب القوة هو صاحب الحق بغض النظر عن كونه ظالمًا أو مظلومًا، والتساؤل الذي يثور في هذا الخصوص: هل تغيّر هذا المبدأ في عصرنا الحالي؟ هل أصبح الحق بديلًا للقوة، أم أن القوة قبل الحق؟!
في الحقيقة، إن واقع المجتمع الدولي الآن ـ وقبل الآن ـ يشهد لهذا المبدأ البدائي ويكرّس له، ويؤكد على أن القوة قبل الحق، بل إنها فوق الحق، وإذا أردنا الدقة أكثر قلنا: إن القوة هي الحق، فمن يملك القوة يملك الحق، ومن لا يملكها لا يملك شيئًا حتى وإن كان الحق معه!!
ودعونا نتساءل: ما الفرق بين ما يسود الآن وبين ما كان سائدًا في العصور القديمة؟ ففي العصور القديمة كان الفرد يستأثر ببعض الأشياء دون غيره ظلمًا وعدوانًا، وكان هذا الأمر يؤدي إلى التنافس والصراع بين الأفراد، وحيث إنه لم يكن يوجد قانون يحكم هذا التنافس، فإنه كان يتم الاحتكام إلى القتال، ومن ينتصر يكون هو صاحب الحق!!
وهذا المبدأ تم إقراره في الإمبراطورية الرومانية القديمة من خلال ما عُرف باسم (نظام المبارزة)، ومضمون هذا النظام اللجوء إلى استعمال القوة الجسمانية بين الخصمين المتنازعين، ويُحكم بالحق لمن كان حليفه النصر، فهل الأمر يختلف عن ذلك بين الدول؟ إن المتأمل يجد أن هذا هو ذاته ما يسود بين الدول؛ فالنظام الدولي تحكمه المبارزة، والدولة التي تنتصر تكون هي صاحبة الحق!!
أليست الدول التي تمتلك القوة العسكرية تتسلط على الدول الأضعف وتتحكم في مصالحها الاقتصادية ومصائر شعوبها؟! أليست تتبع معها المبدأ الذي يتبناه البلطجية وقطاع الطرق (شخلل عشان تعدي)؟! وتضطر الدول الضعيفة إلى الشخللة، حتى وإن كان الحق معها كي يُسمح لها بالوجود، وتستمر البلطجة والشخللة حتى تُستنفد موارد تلك الدول، وحينها تنقض عليها الدول صاحبة القوة بحجة حمايتها ورعاية مصالحها!!
ولعل أهم أثر من آثار مبدأ القوة تُنشئ الحق وتحميه، ما كان مسموحًا به حتى وقت قريب من حق الدول التي تمتلك القوة في الغزو وضم أقاليم الدول الأضعف إليها، وليست حقبة الاستعمار عنا ببعيدة؛ حيث تسلطت الدول القوية على الضعيفة وأخضعتها لوصايتها ونهبت مواردها وثرواتها، ولكن هل زال الاستعمار ونحن الآن في الألفية الثالثة؟ هل زال الاستعمار في ظل وجود المنظمات والمواثيق الدولية؟ أبدًا لم يزُل، وإن اتخذ صورًا وأشكالًا جديدة، كما أن الغزو العسكري لم ينتهِ، فلا زالت الدول الضعيفة لقمة سائغة لأصحاب المطامع، وليست الدول الضعيفة فحسب، بل كذلك تلك الدول التي تفكر في التمرد والخروج عن طوع الدول الكبرى وهيمنتها!!
وليس هذا معناه أن القوة العسكرية وحدها هي المعيار الأوحد للقوة، بل هناك القوة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية... إلخ، ولكن كل هذه القوى قد تصبح عديمة الجدوى إن لم يكن هناك غطاء من القوة العسكرية يحميها ويدافع عنها، فنحن في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء، ولا يخشى إلا صوت القنابل والمدافع والطائرات، وكما قِيل: تعدو الذئاب على من لا أُسود له... وتتقى صولة المستأسد الحامي.
هذا للأسف هو عالمنا.. عالم يعلو فيه صوتُ القوة صوتَ الحق.. عالم لا يكفى فيه أن تكون صاحب حق، ويكفى فيه أن تكون صاحب قوة.. وعلينا أن نتسلح بالقوة، ليس من أجل العدوان، ولكن كي لا تعدو الذئاب على حقنا.. كل هذا على أمل أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه العالم للحق متجردًا من شهوة القوة.