طوال حياتي التي قضيتها بينَ جُدرانِ المدارس، ارتبطت ارتباطا روحيّا لصيقا، بعشراتِ الاساتذةِ الذين تركوا بصمةً وأثرا طيبا فيّ، لازلت أذكرهم _ وساذكركم ماحييت_ فمنهم من قضى نحبه، طالبا لهُ المغفرة والرَّحمة والرضوان، ومنهم من ينتظر، سائلا له الله أن يسّبغَ عليهِ أثواب الصحةِ والعافيةِ، وأن يمدّ في عمرهِ.
ومُنذ أن عرفت أقدامي طريقها لهذهِ الرِّحاب الطّاهرة، فاستهواني العلم والتعليم، وصورة مثالية لصقت في ذهني، وخالطت مخيلتي لرجالِ التربية والتعليم، رأيتُ فيهم الكمال الخُلقي والخَلقي، والنموذج الإنساني الرّشيد، والذي دفع هذا الانطباع ونماه حين ذاك، لأن يزداد يوما بعد يوم، جملة من القيمِ والمبادئ التي قيّد الاستاذ بها نفسه، توقيرا لمهنتهِ السّامية، واحتراما لأبنائهِ من الطُّلابِ، الذين اخلص لهم ووجد فيهم أمل وطنه، ومستقبل أمته.
رمتني الأيامُ بين جُدرانِ مدرسةٍ صغيرةٍ في قريةِ مجاورة، شعرت بدايات التحاقي بها بشيءٍ من الغُربةِ، تلك الغُربة التي لم تنصرف عني بسهولةٍ، ولعلّ السّبب من الوجاهةِ بمكانٍ، فكيف لصغيرٍ مثلي، أن يقضي ثلث يومهِ بعيدا عن أهلهِ، أن يُحرم من لعبهِ ولهوهِ، أن يُفارِق حياة الانطلاق، أن يهجر عشه، ويذهبَ طوعا لقيودٍ اُلزِم بها صغيرا، لم يخطر ببالي أن اهجر الأشياء التي تعلّقت بها بهذهِ السّهولةِ، بدأت حياتي في الطّلبِ مُنعزلا عن الرِّفاق، وإن مالت نفسي لهذهِ التجربة الجديدة .
الاستاذ محمد حسن، لازلت اذكره، متوسط القامة، حنطي البشرة، مفلفل الشعر، تنطبع ابتسامة على مُحيّاه العذب لا تُفارقه ابدا، حتى وإن اخفتها انتفاخة بسيطة تحت جفنيهِ، تُؤسرك نظراته الحانية التي تُلامس قلبك من أولِ وهلةٍ، لم يداخلني هذا الشعور وحدي، بل هي حالة عامة بين طلابهِ، الذين يسري الحب فيهم بداية من طابورِ الصّباح، وانتهاء بشرحهِ في الفصلِ.
الاستاذ محمد كغيرهِ من رجالِ التربيةِ والتعليم _ في ذاك الزّمانِ_ ، الذين نذروا حياتهم لهذهِ الرِّسالةِ المُقدسة، تراهم وقد شمّروا عن ساعدِ الجدّ في كُلّ شيءٍ.
في مدرستنا كانَ للاساتذةِ هيبة وجلال، ورونق ووقار، تلحظه من أولِ مرةٍ، حين تقع عينيك على الواحدِ منهم، تدل أناقة مظهره، وحِسن هندامه، وعنايته بأدقِ التفاصيل، بدايةً من حذائهِ اللاّمع، وعِطرهِ الفوّاح، الذي أصبحنا نُميّز من خلالهِ الاستاذ، حتى ولو اغلقَ عليهِ بابَ فصلهِ.
تعلّقتُ باساتذةٍ كُثُر، في الحقيقةِ لا مجالَ لأن اخفي هذا التعلّق، لعلّ هذا ما جعلني اندفع مبهورا، وبلا وعيٍ في سردِ حكاياتي معهم، واعقد المقارنات غير المتكافئةِ بينهم وبين بعض رجال التعليم اليوم، ما سبّب لي دون أن اقصد، كثيرا من الاحراجِ، خاصة وأن أغلب أصدقائي من المعلمين، اعترف بأني أصبحت أسيرا للذكرياتِ، حين انساق بلا وعيٍ اُعدِّد محاسن ذاكَ الجيل الذّهبي من أربابِ المهنةِ المحترفي، واتوجع لِما آلَ إليهِ حال بعض المعلمين اليوم، المعلم الذي بدّد إرث علي مبارك، ورفاعة الطهطاوي وغيرهما من العظماءِ، بقصدٍ أو دون قصد.
تعرفت في بداياتِ حياتي المدرسية باولئك النوابغِ الأعلام، كنتُ في أحيانٍ كثيرة، ما اعتقدتُ بأن اساتذتي ليسوا من جِنسِ البشرِ أمثالنا، بل هُم من صِنفٍ آخر، اختارهم الله سبحانه، واصّطفاهم وزكاّهم، واسبغَ عليهم من صفاتِ الخيرِ والكمالِ، ما هيّأهم ليكونوا الأصلحَ لحملِ هذا الناموس المقدس .
وقد ابالغ إذا قُلت، أن عيني كانت تفحص كغيري من الزّملاءِ استاذنا، خاصةً حينَ يتجوّل بين المقاعدِ وهو يشرح الدرّسَ بحرفيةٍ ومهارة، اختلس النظرات إلى شكلِ يدهِ، وادقق في رسمِ أصابعهِ، فأرى فيها تناسقا عجيبا، ناهيك عن نظافةِ جلدها ونعومة ملمسها، وتلك مزايا قلّ أن تراها اليوم في استاذٍ .
رزقنا الله استاذا رأينا من كمالهِ الخَلقي، ما جعله في عِدادِ نجومِ السنما الكِبار، وللحقيقةِ كان الرجل آية في الحُسنِ والجمالِ والشِّياكة، فشعره الأصفر المسترسل فوقَ كتفيهِ، والذي لاتنطفئ لمعته أبدا، وقامته الطويلة في اعتدالٍ، وبنيتهِ الرياضية المتينة، وتقاسيم وجهه الأخاذة التي زانتها عينيه الخُضر في اتساعٍ يلفت الانتباه، ناهيك عن أناقةِ ملبسهِ، وحرصه الملحوظ على تنويع ما يرتديه، وتوفيقه في اختيار من الألوانِ ما يضفي عليه سحرا وجمالا، ظلّ على رونقه من أولِ مرةٍ رأيته حتى غادر مدرستنا .
في مدرستنا كان للاستاذ صوته المُؤثِّر الذي يصل قلوبنا قبل أسماعنا، حتى ولو انخفض جرسه، حرص استاذنا أن يصل صوته للمتلقي وحده، فإذا مررت في الممشى بين الفصولِ، فلن تسمع إلا همسا، يحرص أثناء إلقائه الدرس؛ أن ينوّع أنغام صوته، فتخرج كلماته أشدّ وقعا في الذهنِ، وأكثر أثرا على الفهمِ، تزيد عندها عوامل الجذب والألفة بينه وبين طلابهِ .
علّمني استاذي في الصّفِ الثاني الابتدائي، علامات الترقيم، وضبط الكلمات بالشّكلِ والحركات من فتحٍ وضمٍ وكسر، ومع هذا وذاك، فهو أحرص ما يكون على سلامةِ مخارجنا، يجنّ جنونه حين يسمع ما يشوّه العربية الفصحى، أو ينتقص من بريقها.
احببت الخط وبهرني جماله، وعشقت التعبير وسحرتني جمله البليغة، وادركت أسرار الألفاظ، وعرفت كيف توظّف في رسمِ المشاعر الإنسانية، كان لاستاذي (عاطف أحمد علي) الفضل في هذا، كان الرجل حينئذٍ شابا طموحا، يتفجّر حماسا، تخرّج لتوهِ من مدرسةِ المعلمين العُليا، فوضع كغيره نصب عينيه أن القدر اختاره دون غيرهِ؛ فألقى على كاهلهِ هذهِ المسؤولية الجِسام، واسلمه أمانة في عُنقهِ، واصطفاه في مهنةٍ، يكون فيها وريث الأنبياء .
لم اشاهِد بين جدرانِ مدرستنا من اساتذتي، شتّاما ولا لعّانا، ولا فاحش القول بذئ الكلام، بل كانَ الواحد منهم، عفّ اللِّسان، جمّ الحياء، مُفرط الأدب، يتحسّس ألفاظه وينتقيها، كما يتحسسّ مواضع أقدامه.
كان الاستاذ يُراقِب الله ويراعي ضميره، ويلتزم قسمه الذي اقسم ويبره، لذا خلّد الدهر ذكراهم، وجعلهم لمن خلقهم قدوة ومثلا.
لا اذكر أني سمعت استاذنا يستقلّ راتبه، أو يوبّخ الحكومة عليهِ، أو يعقد مقارنة بينه وبين شريحةٍ من شرائحِ العاملين بالدولةِ، فيلجأ إلى التّكاسلِ والتهاون، أو يستذله الشيطان، فيسوِّغ للبعض الهروب من الفصلِ، والتسلّل من المدرسةِ كاللصوصِ والخارجين عن القانونِ، ضاربا بشرفِ المهنة ومواثيقها عرض الحائط، ليبدد وقتا كان طلابه في أشدّ الحاجة إليه، في مصالحهِ الشخصية وأعماله الخاصة .
قال لي من اثق بكلامهِ؛ إن فئة من مدرسي المدرسة من أكبرِ التُّجار، نظرت إليهِ، وقلت بلا مبالاة: شيء عادي، وما العيب في هذا، لا مانع من البحثِ عن مصادر لتحسين الدخل، طالما كانت من طرقٍ شريفة، لا يخلّ فيها المدرس بواجباتِ مهنتهِ .
ضربَ صاحبي كفا بكفٍ، تعالت ضحكاته، وقال باستهزاءٍ: شريفة..؟! إن فصيلا ليسَ بالهينِ، يرى وجوده بين جدرانِ المدرسةِ وبين طلابها عِقابا له، فهو دائم الشكوى، كثير التملّمل، يتذرّع بأتفهِ الذرائع للتملّص من واجبهِ الوطني، حتى لو كان على مستقبلِ أجيالٍ بأكملها .
مررتُ يوما بجوارِ المدرسةِ لقضاءِ بعض أشغالي، شاهدت عن بُعدٍ تزاحماً، وكلّما اقتربت زادَ الهرج والمرج، واشتدّ الكرّ والفرّ، انزويتُ تحت حائطٍ يظلني، حتى استبين سبيلي، وبعد السؤال والتحرّي، اكتشفت أن مشاجرةً نشبت بين أحدِ المعلمين، وبعض الأهالي، والسّبب يُخجل فقد تلفظ الاستاذ المُربي بلفظٍ خادشٍ للحياءِ، أثناءَ توبيخه تلميذة من تلميذاتهِ..
عُدت ادراجي وأنا اُكذِّب عيني فيما رأت، وأذني فيما سمعت.