الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ثنائية الحب والموت في رواية الحب في زمن الكوليرا «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد أكثر من خمسين عامًا، مات الدكتور خوفينال، مات العاشق المنتصر بعد أن أصبح على مشارف الثمانين من عمره، مات في عصر ذات اليوم الذي مات فيه صديق له في الصباح منتحرًا، صديقه الذي انتحر زوجته هي التى ساعدته على إنهاء حياته وإتمام عملية الانتحار، لقد علم ذلك منها الدكتور خوفينال حينما ذهب إليها في صباح ذلك اليوم، وعندما قال لها متعجبًا من فعلها: (كنتِ تعلمين إذن)، قالت مؤكدة له: بأنها لم تكن تعلم فقط، وإنما ساعدته على تجاوز الاحتضار بنفس الحب الذي ساعدته به على اكتشاف السعادة !!
لقد كان صديق الدكتور خوفينال لا يريد أن يصير كهلًا، وقد عزم منذ زمن بعيد أن يضع حدًا لحياته عند السبعين من عمره، واتفق مع زوجته على ذلك، كان يحب الحياة وما فيها بعاطفة مبهمة، وكان كلما اقترب اليوم الذي حدده لموته، كلما هوى في اليأس أكثر، كما لو أن موته لم يكن قرارًا ذاتيًّا وإنما قدرًا حتميًّا !!
هذه كانت فلسفته التي لم تبعد عن فلسفة زوجته التى ساعدته على موته؛ فكانت ترى أن: (كل امرئ هو سيد موته، والشيء الوحيد الذي بالإمكان عمله عندما تحين الساعة، هو مساعدته على الموت دون خوف أو ألم)، ولأنها كانت تحبه استجابة لرغبته في الموت !!
أما الدكتور خوفينال فقد حان دوره في الموت عصرَ ذلك اليوم؛ حيث أيقظه الأسى من قيلولته، ليس الأسى الذي أحسّه صباحًا وهو أمام جثة صديق، وإنما غمامة غير مرئية كادت أن تخنق روحه، واعتبر ذلك إنذارًا بأنه يعيش آخر أيامه؛ ففي عصر ذلك اليوم المشئوم، وبينما كان يحاول الإمساك بالببغاء المفقود الذي وجده على إحدى أشجار حديقة منزله؛ إذ به يسقط من أعلى السلم الذي كان يتسلق عليه.
قفز قلب فيرمينا مفتتًا حينما رأت رجلها مطروحًا على ظهره في الوحل، ميتًا في الحياة، لكنه مازال يقاوم ضربة الموت الأخيرة حتى تصل هي، تطلَّع إليها لآخر مرة وإلى الأبد، بعينين أكثر حزنًا وأعظم امتنانًا مما رأته طوال نصف قرن من الحياة المشتركة، وقال لها مع النفس الأخير: (الله وحده يعلم كم أحببتك)، رجتْ الله أن يمنحه لحظة أخرى من الحياة كي لا يرحل دون أن يعرف كم أحبته! ولكنه رحل.
ما هذا الحب الذي يشتد في الألم وعند المرض وكلما اقتربنا من الموت أكثر !!
في ليلة العزاء لم يكن أحد أكثر حضورًا ولا فائدة من فلورينتينو، فهو الذي نظم كل شيء، هذه هي اللحظة التي انتظرها لأكثر من نصف قرن، لم يكن قد تزوج، ولم يتوقف عن حب فيرمينا، فقط كان ينتظر لحظة موت خوفينال.
وبعد انتهاء العزاء، ذهب فلورينتينو إلى فيرمينا، التى لم تكد تعرفه، وقال لها بصوت مرتعش: (فيرمينا.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم)، وما كان منها أن لعنته لانتهاك حرمة البيت فيما جثة زوجها لا تزال ساخنة في القبر، وقالت له: انصرف ولا تدعنى أراك ثانية في السنوات المتبقية لك في الحياة، وأرجو أن تكون سنواتٍ قليلة.
حينما انصرف وذهبت هي إلى النوم، نامت وهي تفكر به أكثر من زوجها الميت، إنه الصراع بين الحب والموت، بين حب رحل بالموت، وبين موت سيأتى بالحب، هنا يقف الموت في المنتصف ليقضي على حياة عاشق، ويمنح حبَ عاشق آخر الحياة.
لم يفقد فلورينتينو الأمل واستمر في محاولات كسبها بطريقة عقلية، فلم تعد الرسائل العاطفية تجدي نفعًا مع امرأة تجاوزت السبعين، فكان يرسل لها رسائل عن التأملات في الحياة، تساعدها على تقبل الشيخوخة والموت بطريقة أفضل، فتقبلته شيئًا فشيئًا، وأدركتْ أنها تحبه رغم شعورها بأن عمرها لا يصلح للحب.
وعلى متن سفينة نهرية تمتلكها شركته الملاحية، يدعو فلورينتينو حبيبته لرحلة فتوافق، ويبتكر خدعة من أجل التخلص من المسافرين على متن السفينة، فيرفع علم وباء الكوليرا الأصفر عليها، حتى لا يقترب من السفينة أحد، ولا تنتهي الرحلة ويكون الفراق.
نعم إنه الحب يكون في كل زمان، ويكون في كل مكان، ويشتد صلابة كلما اقترب من الموت.