سألت عيسى الذي عاد إلى بلده بعد ترحيله من إيطاليا حيث قٌبض عليه بينما كان مٌلقى على الشاطىء على مشارف الموت إثر تحطم المركب قبل أن ترسو على الشاطىء: هل يمكن أن تعيد محاولة الهجرة غير الشرعية بعد كل ما تكبدته من عناء في تلك المغامرة المأساوية؟
أجاب دون تردد:"نعم.. وهذا كان اتفاقي مع السمسار، فالمبلغ المالي تسلمه مقابل أن أصل إلى إيطاليا وإذا فشلت لي محاولة أخرة، أو غرقت سينتقل المبلغ لأحد إخوتي ليحاول بدوره السفر، لعل حظه يكون أفضل مني!". وإزاء الدهشة التي ظهرت على من وقع كلماته القاسية، تابع عيسى حديثه:" إذا كانت لديك أسرة، فعليك أن تضمن لها الطعام والسكن والتعليم والدواء و"قرشين" للحماية من الزمن. وأنا لدي ثلاثة أبناء أحدهم لديه إعاقة.. وبدلا من أن تسأليني كيف أذهب لأصارع الموت وربما أغرق وأترك زوجتي وأولاده في ضياع.. إسأليني عن أي أب سأكون إذا بقيت بجوارهم وأنا عاجز عن توفير الحياة الكريمة لهم؟!"
قصة عيسى تشبه قصص مهاجرين كثيرين وربما تكون مفجعة أكثر كتلك التي قرأتها مؤخرا في رواية إنجليزية بعنوان "تيتانيكات أفريقية" للكاتب الأريتري أبوبكر حامد كهال المقيم في ليبيا والصادرة عن دار دارف في بلندن. يقول كهال:
"توفي اثنان من الركاب بفعل مرض مفاجئ، ظلت جثتاهما فوق سطح المركب حتى مساء اليوم السابع. ومع اليأس من إصلاح المحرك وعدم ظهور أي نجدة، تم قذفهما في الماء. في الصباح، ظهرت الجثتان طفيتين بجوار المركب. السحب السوداء التي تجمعت جلبت معها العواصف والأمواج التي حاصرت المركب. ظلت تضربه بلا هوادة على مدى الساعة، وكان المطر يهطل بلا تعب. كما إن الثقوب توسعت وصارت تدفع المياه بعنف نحو الداخل رغم المحاولات لوقفها. في اليوم الثامن عشر، وقبل غرق المركب بأربعة أيام، بدأ العطش والجوع يحصد الضحايا. سقط منذ يوم أمس وحتى هذا الصباح المكفهر عشرون شخصًا ظلوا يصارعون للبقاء. لكن مع شروق الشمس لفظوا أنفاسهم تباعًا".
يعاني المهاجرون الأفارقة في اتجاه الشواطئ الجنوبية لبلدان أوروبا الأهوال نتيجة المخاطر المحدقة بهم من جانب والموت الذي يحاصرهم من جانب آخر، ناهيك عن غدر الطبيعة.. ومعاملة الشرطة والسماسرة والمهربين والنخاسين الذين يفترسونهم وضياع أموال بالآلاف غالبا ما تخلف ديونا على كاهلهم وكاهل أسرهم. وتلك بلا شك من أبشع جرائم العصر التي تنقلها الأخبار كل يوم عن مآسي قوارب الموت في حوض المتوسط.
وفي ظل تفاقم أزمة كورونا زادت معاناتهم؛ يوجد عشرات الآلاف من المهاجرين العالقين على الحدود البرية بين تركيا واليونان ووتكتظ المخيمات بالمهاجرين في مختلف أنحاء اليونان بنحو 110 ألف من كل الجنسيات العربية والأفريقية، منهم 40 ألفا في وضع مزري داخل ملاجئهم نتيجة انتشار عدوى فيروس كورونا ووضعتها السلطات تحت الحجر بحسب بيانات مفوضية شئون اللاجئين. وقد وافق خمس دول من الاتحاد الأوروبي على استقبال عدد محدود من الأطفال العالقين في اليونان "بشرط أن يكون الأطفال وحدهم وغير مصحوبين بأولياء أمورهم". ومازالت مراكب تقل مهاجرين تصل إلى سواحل إيطاليا حتى بعد انتشار كورونا. وقد زاد عدد سفن المهاجرين التي تنطلق من السواحل الليبية منذ بدء الوباء بنسبة 290 %، أي 6629 محاولة للهجرة خلال الشهور الأربعة الأخيرة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وبنسبة 156 % من السواحل التونسية. وهناك 75 % من المهاجرين الآتين من ليبيا كانوا قد فقدوا عملهم خلال إجراءات الحجر.
وفي مالطا المجاورة تشير أصابع الاتهام إلى السلطات التي تركت مهاجرين يموتون في عرض البحر ورفضت إنقاذهم عمدا. وقد توقفت أعمال الإنقاذ في المتوسط تماما كما يتم إعاقة مهمات الإغاثة التي تقوم بها بعض المراكب التابعة لمنظمات إنسانية. وقد غرق 179 شخصا منذ أن توقفت مهمات الإغاثة بحسب المفوضية. ويوجد أيضا 162 مهاجرا عالقين على سفينتين في عرض المتوسط.
ويظل ما ينقل في تقارير مفوضية اللاجئين ومنظمات الإغاثة أقل من الحقيقة في ظل عدم وجود شهود، وبالتأكيد فإن حجم المأساة التي يكون البحر المتوسط مسرحا لها أكبر بكثير من هذه التوقعات.
و قد لوحظ خلال السنتين الأخيرتين تحويل العصابات وجهتها عن مصر بعد أن أصبحت سواحلها شديدة الحماية والمراقبة ضد محاولات الهجرة غير الشرعية وانعكس ذلك في تراجع عدد الذين غرقوا في تلك العمليات من 1773 فردا عام 2017 إلى 587 فردا عام 2018.
كما تلعب السياسات المتخذة في هذا الشأن دورا في الحد من هذه الظاهرة، خاصة بعد صدور قانون 82 لسنة 2016 بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين وكذا إطلاق عدة مبادرات مثل مُبادرة "مراكب النجاة" للتوعية بمخاطر المشكلة في 40 قرية، بدءا من محافظة الفيوم الأولى في تصدير المهاجرين خاصة القصر، بتكلفة إجمالية 250 مليون جنيه وكذلك مُبادرة "فرصة" لتوفير فرص عمل للشباب، ومبادرة "حياة كريمة" في 500 قرية الأكثر احتياجًا وتغطي 14 مُحافظة. كما أن التوجه إلى محافظات الصعيد لزيادة مشروعات التنمية بها يأتي في إطار التصدي لعلاج الظاهرة. وليس بخاف على أحد أن هذه المشكلات هي نتيجة سنوات طويلة سابقة من إهمال التنمية في الصعيد.
ويلوح الأمل من جديد حاليا لاستعادة ذلك الشباب اليائس بعد أن تم رصد استثمارات حكومية بالصعيد بقيمة 47 مليار جنيه كما يوضحه مشروع خطة التنمية المستدامة للعام المالى 20/2021. وتمثل 25٪ من إجمالي الاستثماراتِ الحكومية بزيادة نسبتها 50٪ مقارنة بخطة التنمية 19/2020، يخصص منها 2.9 مليارجنيه لبرامج التنمية في محافظتين فقط (قنا وسوهاج) وهما بين المحافظات الأكثر فقرا. كذلك تم توجيه 19.2 مليار جنيه للمُحافظات الحدودية (شمال وجنوب سيناء، مطروح والوادي الجديد) بنسبة نمو تجاوزت الـ 60%. وبلا جدال فإن مشروعات التنمية الموجهة إلى الـمُحافظات والمناطق الأكثر احتياجًا هي في صدارة الحلول الكفيلة بإنقاذ شباب مستعد للموت في عرض البحر مرة بعد أخرى دون توقف مثلما جاء في شهادة عيسى.
غير أن المحاولات التي تبذلها مصر منفردة ليست بحل كاف خاصة في ضوء عدم الاستقرار الذي تشهده دول المنطقة ومعدلات التنمية الضعيفة التي مازالت تعاني منها غالبية الدول الأفريقية، وهو ما يستلزم حزمة سياسات عامة تشترك في وضعها وتنفذيها كافة الدول متضامنة معا سواء المصدرة للهجرة أوالمستقبلية لها. كما أن التصدي لجريمة تهريب المهاجرين يستلزم اتباع نهج شامل متعدد المستويات فبدلا من التركيز بشكل كبير على اعتقال وترحيل المهاجرين من الضروري إيلاء اهتمام أكبر لملاحقة المهربين وتقديمهم للعدالة وتفكيك الجماعات الإجرامية المنظمة المتورطة في هذه الجريمة ومصادرة المتحصلات الناتجة عنها حيث غالبا ما ترتبط بهذه الجريمة جرائم أخرى مثل غسيل الأموال والاتجار في البشر.