وإذا انتقلنا إلى «معركة الجمل» الشهيرة، والتى كان فيها « على بن أبى طالب» وصحبه في جانب، والسيدة عائشة زوجة الرسول ومعها طلحة والزبير في جانب. دار اقتتال مرير بين الطرفين، بلغ من ضراوته أن تعالت بعض الصيحات في الجانبين، تدعو المقاتلين إلى أن يطرِّفوا، أى أن يقطع بعضهم أطراف بعض. (ص ص ٢٤ – ٢٥)
وهنا يتساءل فرج فودة:
هل من الممكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ هذا من جانب، وفيما يتعلق بالجانب الآخر من الخصومة، يواصل فوده تساؤله: هل من الممكن أن يجتمع « على بن أبى طالب» و«عمار بن ياسر» و«عبد الله بن عباس» على باطل؟
والحق أن السؤال يبقى بلا إجابة هنا أو هناك، أو إجابة بالنفى هنا وهناك في ذات الوقت. إن السؤالين يقذفان بنا في قبو مظلم من الناحية الدينية!! لكن في وسعنا أن نجد مخرجًا، إذا أدركنا أن الأمر برمته كان أمر سياسة قبل أن يكون أمرًا دينيًا. لقد كان أمر حكم قبل أن يكون أمر «تحكيم».
وقد خرج فرج فوده بنتيجة مؤداها إن السياسة لعنة، أخرجت نوازع الشر من النفوس، وأشعلت ثورات الغضب، حتى صار الساعى إلى تحكيم كتاب الله في خضم بحرها المتلاطم ساعيًا إلى حتفه، وحتى قُتِل طلحة بن عبد الله في المعركة، وقُتِل الزبير- على اختلاف في رواية مصرعه- ولم ينقذ المسلمين إلا دعوة « على بن أبى طالب» إلى عقر الجمل الذى يحمل أم المؤمنين عائشة. (المرجع السابق، الموضع نفسه)
لا توجد ذرة شك لدى أى مسلم عاقل سليم العقيدة إن طرفى الخصومة هم أكثر الناس فهمًا للقرآن، وأكثر الناس التصاقًا بمصدر السنة ذاته، وهو الرسول الكريم، ورغم ذلك فقد رأى كل منهما رأيًا، ووصل الأمر بهما إلى الاقتتال وإسالة الدماء أنهارًا. (ص ٢٦)
من حقنا أن نتساءل الآن:
إذا كان هذا هو ما جرى بين رجال الصدر الأول للإسلام والمبشرين بالجنة، فكيف يكون الحال على يد من هم أدنى منهم مرتبةً، وأقل منهم إيمانًا وتعمقًا في الدين، وأضعف منهم عقيدة، وأبعد منهم التصاقًا بعهد الرسول العظيم؟
هل نقول إن ما كان بينهم هو خلاف ديني؟ أم الأصوب والأقرب إلى وقائع التاريخ القول بأنه كان أمرًا سياسيًا يتعلق بأمور الدنيا لا الدين. أما إذا قلنا إن ما جرى كانت أسبابه دينية، فإن هذا القول سوف يترتب عليه نتيجة بالغة الخطورة، وهى أن الدين كان سببًا للفرقة والاقتتال!! وحاشا لله أن يكون ذلك صحيحًا. (ص ٢٦)
ويستطرد فرج فوده قائلًا:
«الفصل بين الدين والسياسة أرحم بالإسلام والمسلمين، لأننا إذا اختلفنا في الرأى السياسى المخلوط بالدين، فسوف يُكَفِّر كل منا الآخر، بسبب الاختلاف في الرأي. وسوف يبذل كل منا الغالى والنفيس دفاعًا عن رأيه، الذى يظن أن فيه زود عن العقيدة، في حين أنه في جوهره موقفًا سياسيًا. ولعل هذا هو مبعث العنف في الحركات الإسلامية قديمًا وحديثًا». (ص ص ٢٦ – ٢٧)
إننا في عصرنا الحالي، وفى ظل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، التى تفصل بين الدين والسياسة، نجد الناس تختلف وتقبل الاختلاف، ويتحاورون دون صراع بالسيف، ويتم القبول بالهزيمة السياسية نزولًا على رأى الأغلبية، وعلى أمل في أن يحوز قبول الأغلبية ذات يوم.
سادسًا: يرى فرج فوده أن استقراء التاريخ الإسلامى يكشف عن أن أئمة الفقه الإسلامى الأربعة، وهم أبو حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل. كانوا أكثر من عانى من الحكم السياسى المتسربل بالدين. صحيح إن التاريخ الإسلامى حافل بحكايات مخزية عن فقهاء السلطان، الذين كان شغلهم الشاغل ترجمة أمانى الخلفاء إلى أحكام فقهية، بل والعياذ بالله اختلاق أحاديث نبوية ونسبتها إلى الرسول الكريم بغية تحقيق أهداف السلاطين وطموحاتهم!!
نجح أصحاب العقول المعتمة في اغتيال الدكتور فرج فوده، لكن أبدًا لن يفلحوا في إخفاء الحقيقة التى دفع حياته ثمنًا من أجل إعلانها صريحة مدوية؛ وهى استحالة قيام دولة دينية في مصر المحروسة.