الجمعة 15 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أنتم السّابقون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بهذهِ العبارة الجزلة، تعوّدنا جميعا تِردادها قبل دخولنا المقابر، يقف الواحد مِنا في وقارهِ على مشارفِ (الجبانة)، يُطالِع ما حوله ليجد وقد أصبح بين عالمين مختلفين كُلّ الاختلافِ، عالم الدنيا وعالم الآخرة، عالم انقطعت عنه الآمال، وانحصرت فيه الأعمال، استغُني فيه عن قيل وقال وكثرة السؤال، ترك المرء فيه ما خوّل، ودّع الحبيب حبيبه، تركه وديعة لجودِ رب كريم منان.
وعالم مادي فاني، موصولا بفلكِ الأماني ، تناسى المرء فيه قبره ولحده، وتغافل عن حسابهِ وعقابه، غره ما غرّ العُتاة، ذاق حلاوة الحياة فأحبها، وكره الانصراف عنها، حتى تقرعه قارعة الموت، فيلاقوا يومهم الذي يوعدون .
عرف الإنسان الموتَ، وحسب حسابه مُنذ الأزلِ، كيف لا يشغله؟! وفيهِ انقطاعه عن الدّنيا وزينتها ، امتلأت معابد الأقدمين بالنّصوصِ والجداريات الجنائزية التي حكت حقيقة الموت وتفاصيل رحلته.
سيّرت مدرستنا رحلةً لمنطقة (تونة الجبل) وهي منطقة أثرية تُرابض على أطرافِ صحراءِ مصر الغربية، يفصلها عن الوادي مجرى بحر يوسف العظيم، وهناك اصطحبنا المرشد المُكلّف يشرح لنا صورا من المكان، ذهل الجميع أمام عظمةِ الأجداد، ولكن ما أثار الانتباه، اهتمامهم بتدوين رحلةِ الآخرةِ، عن الموتِ وأهوالهِ، فرأيت القوم وقد أجلّوا خطبه، وأكبروا أمره، فأصبح جزءا من شعائرهم الدينية، فلو طالعتَ معابد أجدادك المنتشرة حول وادي النيل السعيد، تراءت لك الصورة واضحة المعالم، تفوحُ منها رائحة الموت، ومشاهد القبر والحساب، في مشهدٍ مهيب، يُجللّه الخشوع، وتكتنفه الهيبة والجلال .
كذا الحال في الإسلام، عرفنا الموت أنّه هادمُ اللّذات، ومُفرِّقُ الجماعات، وميتِّم البنين والبنات، فاكتسب طقوسا نبعت من تعاليمِ الدين الحنيف، وبرزت آدابًا أخرى تُضفي على الموت مزيدا من القدسيةِ، عرف الناس آداب الجنائز، وأصبح له أدبياته المعروفة، والتي امتلأت بِها بطون المصنفات.
جعل كُلّ هذا للموتِ ذلكَ الجبّار الرّهيب، قبضة لا تُخطئ، ورمية لا تخيب، يتأدّب الخلق في حضرته، وينكسروا أمام سطوته، وينساقوا مرغمين يتسابقوا لصالحِ الأعمال.
في قريتنا وقُرانا الفقيرة، تعوّد أهلنا الطيبين زيارة موتاهم أيام الأعيادِ، يحرصون على ذلك أشدّ الحِرص، يخرجون منذ الصباح الباكر طوال أيام العيد فرادى وجماعات، وقد استعدوا له واتخذوا زينتهم، فالجبانة على مقربةٍ منهم، ما إن يقلك (الصندل) فيمخر بِك عباب ماء بحر يوسف الزاخر، حتى تُطالِعك مشاهد القبور ببنيانها المميز، أكوام من الطّوبِ اللّبن المطلية بالجيرِ الأبيض، دوّن عليها أسماء أصحابها من الأموات، وآياتٍ من الكتابِ العزيز تمجّد الموت (كل نفسٍ ذائقة الموت).
ما إن تتخذ وجهتك فتنساب بين القبورِ، لتجد النساء القرويات وقد افترشن الرِّمال من حولِ قبور ذويهم، يجلس العجائز منهن في تضرّعٍ، يزرفن الدمع السّخين، يخاطبن سُكان القبور من أحبائهم، تبكي الأم ابنها، والزوجة زوجها، والأخ أخاه، والابن أباه، والابنة أمها، والصّديق صديقه، رأيت بعيني أثناء زياراتي المعتادة مشاهد كثيرة، كيف تحلّق أهل الميت حول قبرهِ، يأكلون ويشربون في توسعةٍ، رأيت الأم تُخاطِب قبرَ ابنها بصوتٍ مسموع، فهم على يقينٍ من سماعِ أهل اللُّحود حديثهم، ولا شك فأخبارهم السّارة تسعدهم، على شاكلةِ: أنا نجحت السنة دي وقاعد لي سنة واخلص.... أميرة اتجوزت الحمد لله ربنا كرمها بابن الحلال... شوف حفيدك حلو إزاي طالعلك الخالق الناطق أنت..
وعلى الرّغم من سعادة القوم واطمئنانهم، وحرصهم أن يشاركهم صاحب القبر أخبارهم المفرحة، غير أنّه لا مانع أحيانا من البكاءِ والنحيب، اعرف بعض نساء قريتنا قضين أعمارهن حِدادا على رحيل الأحبة، وأشجار الصّبار التي تلاصق اغلب القبور تؤمّن على كلامي، تودّ الواحدة - لو استطاعت - أن ترويها بدمعِ العين حزنا على الفقيدِ، مُقابل أن يعود للحظةٍ واحدة.
لا تمرّ عليّ أيام الأعياد، دون الذهاب للمقابرِ كبقيةِ الخلقِ، ولكني تعوّدت أن أحمل مصحفا صغيرا في جيبي، أقرأ منه بعض سورِ الكتاب العزيز وآياتهِ، عند قبورِ الأهل والأصدقاء وبعض المعارف من موتى قريتنا وخاصة الجيران، رأيت في هذا الصّنيع ردا للجميل، وصدقة أهب ثوابها للموتى: عسى أن يرزقنا الله - بعد الممات- من يطلب لنا الرّحمة والغفران.
وبينما أنا مشغول في قراءتي، وإذ بسيدةٍ عجوز تقف إلى جواري في هدوءٍ تام، وفي يدها كيسا ملأته بالفطائرِ وقطع الكحك، انتهيت من قراءتي سريعا، إلتفت إليها في تلطّفٍ، وقبل أن انطق بكلمةٍ واحدة، قالت المرأة وقد سحّ الدمع من عينيها: الله يبارك فيك يا شيخ.. تعالى اقرأ سورة ياسين عند قبر ابني.. معايا خمسة جنيه هي كل إللي معايا.
اغرورقت عيني بالدموعِ؛ رأفةً ورحمة لحالِ أمنا العجوز، التي أبدت من استعدادها لأن تجودَ بكُلِّ ما تملك أجرا؛ لقراءةِ سورةٍ من القرآنْ تهب ثوابها، بردا وسلاما لروحِ ابنها الميت، على الفورِ اطعت أمرها، وقمت من مكاني وذهبت لقراءةِ ما شاءت من آي الذِّكرِ الحكيم، وفي النهايةِ قبّلت يدها وطلبت منها الدعاء.
في السابق، قدّر الناس حُرمة الموت أيّما تقديرٍ، كنتُ صغيرا اذهب المقبرة وراء الجنائز، أو لتجديدِ قبور الموتى وإعادة تروميم ما تهدّم منها، فما إن تطأ أقدامنا تراب (الجبانة) عند مداخلها، إلا ويُسارِع الكبار مِنا لنزعِ نعالهم في الحالِ بمنتهى السكينة والوقار، تتوالى عندها نصائحهم للصغارِ أمثالي: إياك تدوس على قبر غطته الرملة.. اقلع الشبشب.. دا حرام يا بني.
ظنّ الناس لوقتٍ قريب أن اشعال السيجارة ونفث الدّخان بجوارِ القبرِ، أو في أرضِ الجبانة من الآثامِ العِظام، وجُرأة تُسقط صاحبها من أعينِ النّاسِ، بل وتنتقص من دينهِ، إلا أن يتوبَ ويستغفر.
رأيت بأم ِعيني - صغيرا - أكثر من مرةٍ، كيف تنحى أصحاب الكيف بعيدا عن حُرمة القبور، فاتخذوا مجلسا بجوارِ حديقة البرتقال المجاورة للمكانِ، اشعلوا سجائرهم، حتى إذا انفضوا عادوا أدراجهم، عرفَ الناس أن هذا الفعل مشين، وفيه انتهاك صريح لحرمةِ الموتى، واستباحة لقدسية الموت ووقاره.
مُنذ فترةٍ ليست بالبعيدةِ، ذهبت في جنازةٍ لأحدِ أبناء القرية، انشغل القوم بميتهم، سووا قبره، وتجمعوا يدخلوه لحده، ويهيلوا عليهِ التّراب، عندها تملّكتني رهبة عظيمة، وقشعريرة كاد أن يتوقف لها قلبي، وأنا أقف في حضرةِ الموت، استشعر سلطانه العظيم، وقبضة جنده الذين حاموا من حولِ الرؤوس دون أن نشعر، اؤمّن بصوتٍ مَكلوم، وبنبرةِ المفجوع لمصابِ الموت، وراء الواعظ الذي بدأ يُلقي بخاطرةٍ مختصرة عن هادمِ اللذات، ثم الدعاء للميت بالثباتِ والمغفرةِ، القيتُ ببصري في زاويةٍ قريبة، بعد أن غالبتني رائحة الدخان وسحبه الكثيفة، رأيت ما افزعني، بعض الشباب اعتلوا قبرا قريبا، فاتخذوه مجلسا، وتبادلوا فيما بينهم السّجائر، بل وتجرأ البعض فوضع سلك سماعة الهاتف في أذنهِ، وعلى مقربةٍ منهم جماعة من العجائزِ تاهوا في قصصٍ سخيفة عن الزّرعِ والحقول.
فركتُ ما علقَ بيدي من طينِ القبر، استغفر لذنبي وللمؤمنين، تحركت ناحية مقطورة (الجرار) التي تحمل المشيعين، وأنا اُردد بصوتٍ هامس: "مالكم لا ترجون للهِ وقارا".