بينما رسم الرئيس عبدالفتاح السيسى القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية الخط الأحمر (سرت والجفرة) الذى لن تسمح الدولة المصرية لمرتزقة أردوغان وعصابات السراج تجاوزه، شدد فى خطابه أمام ضباط وجنود المنطقة الغربية بقاعدة سيدى برانى الجوية على أن التدخل العسكرى المصرى سيتم لحماية الحدود الغربية والعمق الحيوى للأمن القومى المصرى داخل الأراضى الليبية لردع الغزاة الأتراك وحلفائها من الميليشيات الإرهابية، مع عدم السماح لأى طرف ليبى بتجاوز تلك النقطة.
الرئيس السيسى أوضح أيضاً أنه فور انتهاء العمليات العسكرية ستعمل القوات المصرية على إعادة الأمن والاستقرار إلى ليبيا ووقف فورى لإطلاق النار لتبدأ بعده مفاوضات التسوية السياسية السلمية.
الرئيس فى خطابه ورغم تلويحه بالتدخل العسكرى الحاسم التزم ببنود إعلان القاهرة والقاضية بأن تكون سرت والجفرة آخر النقاط التى ينسحب إليها الجيش الوطنى الليبى، ولم يلمح إلى أن الجيش المصرى سيتخذ من محاولة مرتزقة أردوغان وعصابات السراج الهجوم على مدينة سرت والجفرة ذريعة لتمتد عملياته العسكرية غرباً إلى مصراتة وصولاً إلى العاصمة طرابلس والمدن المحيطة بها؛ ما يعنى التزامه الصارم بما تم التوافق عليه دولياً قبيل تدشين إعلان القاهرة لحل الأزمة بمبادرة ليبية ليبية فى مؤتمر صحفى عقده بحضور المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطنى الليبى والمستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب.
خطاب الرئيس الذى جاء فى عبارات حازمة تعكس قوة وقدرة القوات المسلحة المصرية جاء مع ذلك متزناً لالتزامه بمبادئ الشرعية الدولية حال التدخل العسكرى، وبتأكيده على أن الحل فى ليبيا لن يكون إلا سياسياً وفق إعلان القاهرة ومخرجات مؤتمر برلين تحت المظلة الأممية سواء اضطرت مصر للتدخل العسكرى دفاعاً عن أمنها القومى، أو تراجعت تركيا وأتباعها فى طرابلس عن أحلام السيطرة على سرت ومنطقة الهلال النفطى لحلب آبار وحقول ليبيا.
رسائل الرئيس المتزنة فهمتها كل الأطراف الدولية حتى تلك التى تفاجأت بخطابه واستعراض التشكيلات العسكرية للجيش المصرى فى المنطقة الغربية؛ فرغم انزعاج وزارة الخارجية الألمانية، وشعورها بالقلق تجاه تصريحات الرئيس السيسى إلا أن المتحدث الرسمى باسمها أكد على ضرورة التزام جميع الأطراف بوقف إطلاق النار والتوقف عن اتخاذ أى خطوات تصعيدية وبدء مفاوضات الحل السياسى.
الاتحاد الأوروبى لم يشر صراحة إلى خطاب الرئيس لكنه قال أن الشعب الليبى لا يحتمل المزيد من التوتر والتصعيد لافتاً إلى أن مباحثات 5+5 الأمنية والتى تضم ممثلين عسكريين عن الطرفين الليبيين لوقف إطلاق النار هى البداية الحقيقية لمسار المباحثات السياسية؛ ولأن الاتحاد الأوروبى يدرك تماماً أن التصعيد المصرى جاء على خلفية سعى تركيا لتأزيم الأوضاع وتعقيدها باشتراطها انسحاب الجيش الوطنى الليبى من مدينة سرت وقاعدة الجفرة لعقد هدنة دائمة، أعلن من خلال الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية جوزيب بوريل أن تركيا لا تتحدث سوى بلغة القوة وأنها أرسلت آلاف المرتزقة الإرهابيين إلى ليبيا، مطالباً أنقرة بضرورة الالتزام بمخرجات برلين والقرارات الأممية بشأن حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا.
وفى أول رد فعل لها على خطاب الرئيس، أعلنت الخارجية الأمريكية أن الخطاب يؤكد ضرورة أن تعمل ليبيا مع جيرانها لتعزيز وقف إطلاق النار عند خط المواجهة الحالى وذلك لتجنب تصعيد أكبر ما يعنى أن الرسالة المصرية قد وصلت سريعاً إلى الولايات المتحدة ومفادها أن الجيش المصرى لن يلتفت لاختباء تركيا خلف حلف شمال الأطلسى بحديثها المتكرر بأن وجودها فى ليبيا من أجل حماية مصالح الحلف فى مواجهة النفوذ الروسى، وأنه فى وضع الجاهزية القتالية للتصدى لأية عناصر تحاول الاقتراب من الخط الأحمر.
مجلس الأمن القومى الأمريكي تماهى مع خطاب الرئيس فى رفضه التصعيد العسكرى من أى طرف ومحاولة تجاوز خطوط المواجهة الحالية بل وشدد على أن أى عملية سياسية ينبغى بناؤها على مسار المباحثات العسكرية عبر لجنة 5+5، وإعلان القاهرة ومخرجات مؤتمر برلين مؤكداً دعمه للجهود المصرية للتوصل لتسوية سياسية تحت مظلة الأمم المتحدة.
الموقف الأمريكى أكده قائد القيادة الأمريكية فى أفريقيا المعروفة اختصاراً بـ (أفريكوم) أثناء اجتماعه مع فايز السراج حيث طالبه بضرورة العمل على وقف استراتيجى لإطلاق النار.
غالبية الأطراف الدولية أخذت تلويح الرئيس بالتدخل العسكرى على محمل الجد، خاصةً وأنه أكد لشيوخ القبائل الليبية استعداد مصر تدريب وتسليح أبنائهم لمساعدتهم فى مواجهة العدوان التركى والعصابات والمليشيات الإرهابية، وهى خطوة قد تلجأ إليها الدولة المصرية حال أصرت تركيا على إبقاء مرتزقتها السوريين والعناصر الإرهابية داخل ليبيا بهدف إشعال الفوضى حتى بعد صد هجومها المحتمل على سرت والجفرة.
وتؤشر ردود الأفعال تلك إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربى قد يمارسون ضغطاً حقيقياً على تركيا وأتباعها فى طرابلس لعدم التقدم عبر المرتزقة والمليشيات نحو مدينة سرت والجفرة تفادياً لتصعيد عسكرى مع القاهرة، رغم أن أنقرة قد تخلت عن تصريحاتها المتحفظة نسبياً والتى صدرت عقب انتهاء خطاب الرئيس على لسان وزير خارجيتها مولود تشاووش أغلو بقوله (نتفهم مخاوف مصر الأمنية المشروعة)؛ وأعلنت أن تحذيرات القاهرة لن تمنعها من دعم حلفائها فى طرابلس، مؤكدة أن ما تسمى بقوات حكومة الوفاق وبدعم تركى تستعد للهجوم على مدينة سرت ومنطقة الجفرة.
وفيما يبدو أن زعيم الإرهاب الدولى أردوغان لايزال يراهن على المخاوف الأمريكية من التواجد الروسى وأن واشنطن قد تدعمه لشن عملية عسكرية ضخمة تمكنه من طرد ما تقول أنها عناصر فاجنر الروسية المدعومة من موسكو؛ أو أنه يمارس لعبته المفضلة وهى الرقص على حافة الهاوية بزيادة وتيرة التصعيد على مستوى التصريحات الإعلامية حتى يتمكن من تحقيق أكبر قدر من المكاسب، لاسيما وأنه يدرك جيداً استحالة دخول مواجهة عسكرية مباشرة مع مصر بينما تفصل نحو ألفى كيلو متر بين ضباطه ومرتزقته وقواعد الإمداد الرئيسة فى تركيا؛ علاوة على أن بوارجه وفرقاطاته وطائراته الحربية ستكون هدفاً مشروعاً فى تلك الحرب حال إندلاعها.
إزاء التوافق المصرى الأمريكى البادى عبر تصريحات كبار المسئولين العسكريين والدبلوماسيين فى الإدارة الأمريكية حول إعلان القاهرة هناك إمكانية لأن تلعب مصر دوراً مهماً فى خلق تفاهم ما بين واشنطن وموسكو فيما يتعلق بالساحة الليبية.
وقد تساعد القيادة الأمريكية فى أفريقيا (أفريكوم) ما تسمى بحكومة الوفاق على تفكيك المليشيات الإرهابية والعصابات المسلحة التى تعد المكون الرئيس لقواتها وعناصرها المقاتلة إلى جانب مرتزقة اردوغان وذلك وفق محللين سياسيين ومراقبين توقعوا أن يكون قد جرى التفاهم والاتفاق على هذه المسألة بين أفريكوم والسراج أثناء اجتماع الإثنين فى مدينة زوارة والذى حضره السفير الأمريكى فى طرابلس ريتشارد نورلاند.
يشار فى هذا السياق إلى أن العاصمة طرابلس شهدت بعد انسحاب الجيش الوطنى الليبى اشتباكات حادة بين المليشيات والتنظيمات الإرهابية المسلحة وقد أسفر عنها سقوط عدة ضحايا حيث عادت تلك المليشيات تتقاسم أحياء طرابلس والمدن الغربية وتتنافس على مناطق نفوذها الجديدة إضافة إلى نشوء صراعات دموية بين ما تعرف بمليشيات طرابلس من ناحية ومليشيات مصراته المدعومة من وزير الداخلية المفوض فتحى باش أغا ما دفع مليشيات طرابلس إلى تأسيس اتحاد مجلس طرابلس الكبرى ليكون كيانا يدافع عن وجودهم ونفوذهم وفق وسائل إعلام ليبية.
وفى سياق متصل تتهم القاهرة ما تسمى بحكومة الوفاق بدعم الإرهاب لاعتمادها على قادة التنظيمات والجماعات الإرهابية المحسوبين على جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة وتنظيمات كداعش والقاعدة وأغلبهم مدرج على قوائم العقوبات الأممية وهو ما يجعل التفاوض مع هذه الحكومة لإيجاد تسوية سياسية أمراً مستحيلاً قبل أن تتخلص من تبعيتها لتلك الميليشيات.
وتضع المبادرة المصرية انسحاب المرتزقة السوريين والضباط الأتراك وتفكيك المليشيات المسلحة شرطاً للبدء فى أى عملية سياسية على أن يتم تسليم أسلحة وعتاد تلك الميليشيات والعصابات إلى الجيش الوطنى الليبيى بقيادة المشير خليفة حفتر الذى سيباشر وبمجرد التوافق على هذين الشرطين مهمة تأمين البلاد ومحاربة الجماعات الإرهابية.
ومع ذلك ورغم وضوح الرؤية المصرية التى توافقت عليها مكونات الشعب الليبى ممثلة فى البرلمان والمجلس الأعلى للقبائل الليبية ومجلس حكماء ليبيا ومجالس قبائل ترهونة والورشفانة والتى أصدرت بيانات تطالب الجيش المصرى للتدخل لطرد المحتل التركى والمساعدة فى الحرب على الإرهاب؛ إلا أن الأمر لايزال يكتنفه الكثير من الغموض فإلى أى مدى ستكون الولايات المتحدة جادة فى التزامها بما أكدت عليه بشأن ضرورة انسحاب جميع المرتزقة الأجانب وسحب جميع المعدات والأسلحة وتفكيك الميليشيات والعصابات الإجرامية؟! هل ستقبل واشنطن بحل توافقى مع موسكو التى تعتبرها مصدر التهديد الأول لمصالحها فى ليبيا وشمال إفريقيا؟!
الأيام المقبلة ستجيب عن هذه التساؤلات الصعبة وستكشف حقيقة ما يبدو عبر التصريحات والبيانات الصحفية من مواقف سياسية.