في التاسع عشر من يونيو الجارى (2020) تقدمت مصر رسميا إلى مجلس الامن التابع للامم المتحدة بشكوى بشأن سد النهضة، دعت فيه المجلس للتدخل من اجل حماية السلم والامن الدوليين استنادا إلى المادة 35 من ميثاق الامم المتحدة التى تجيز للدول الأعضاء أن تنبه المجلس إلى أي أزمة من شأنها أن تهددهما.
وعكست هذه الخطوة التى اقدمت عليها الدولة المصرية الرؤية التى تبنتها منذ بداية اثارة هذه الازمة وتفاقمها بسبب التعنت الاثيوبى، إذ انتهجت مصر المسار السياسى في معالجة الازمة، بدءا من المفاوضات الثلاثية واللجوء إلى المكاتب الفنية، ثم العودة إلى المسار التفاوضى بحضور دولى ممثلا في الولايات المتحدة والبنك الدولى، وصولا إلى العودة للمسار التفاوضى عبر الإنترنت بسبب ازمة كورونا العالمية، والتى كانت قد دعت إليها السودان املا في التوصل إلى حلول توازنية وعادلة ترضى الاطراف كافة، إلا ان التعنت الاثيوبى واصراره على اتخاذ إجراءات احادية سواء في استكمال الإنشاءات أو بدء ملء السد دون مراعاة مصالح الطرفين المصرى والسودانى، اوجب على الدولة المصرية حرصا منها على استكمال مسارها السياسى التفاوضى بعيدا عن لغة الشد أو التهديد التى تحاول إثيوبيا بين الحين والاخر إطلاقها في مواجهة المطالب المصرية والسودانية المشروعة في تحقيق التنمية للجميع دون الاضرار بالحقوق التاريخية أو مخالفة القواعد الدولية الناظمة في استخدام الانهار طبقا للاتفاقية الدولية، إذ ان ما اقدمت عليه إثيوبيا في جولة المفاوضات الاخيرة كشفت عن غياب الارادة السياسية لدى إثيوبيا، بل وإصرارها على المضي في ملء السد بشكل أحادي بالمخالفة لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في ٢٣ مارس ٢٠١٥ والذي ينص على ضرورة اتفاق الدول الثلاث حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، ويلزم إثيوبيا بعدم إحداث ضرر جسيم لدولتي المصب.
ومن ثم، فالتوجه إلى مجلس الامن لعرض القضية إنما يحمل دلالاتين مهمتين: الاولى، تتعلق بالرؤية المصرية التى تتسم بالتوازن بين تأكيدها على حماية حقوقها التاريخية وامنها القومى من ناحية، وبين حرصها على حق الاخرين في التنمية وفقا للقواعد القانونية والاتفاقيات الدولية. وأن تحقيق هذه الرؤية لن يتأتى إلا من خلال المسار السياسى الذى يؤكد على حفظ الامن والسلم دوليا واقليميا كما أكد على ذلك الرئيس عبد الفتاح السيسي بقوله ":عندما تحركنا إلى مجلس الأمن كان بهدف اتباع المسار الدبلوماسي والسياسي حتى نهايته". اما الدلالة الثانية، تتعلق بالمسارات المقترحة امام مجلس الامن في التعامل مع تلك القضية إذ امامه ثلاثة مسارات، إما إحالة الأمر إلى محكمة العدل الدولية؛ باعتبارها نزاعا قانونيا في ضوء نتائج الجولة الأخيرة التي حسمت على ما يبدو غالبية النقاط الفنية، أو إصدار توصية لإثيوبيا بالعودة للمفاوضات وعدم الملء بشكل منفرد حتى إبرام اتفاق، أو أن يصدر قرار ملزما، وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بوقف الملء وكذلك البناء مع تشكيل لجنة فنية للفصل في الأمور العالقة.
والواقع ان هذه المسارات الثلاثة تحتاج إلى استمرار للجهود المصرية في تعزيز المسار السياسى لحل الازمة بعيدا عن التشدد ولغة الحرب، مع الاخذ في الاعتبار ان عدم تبنى لغة الحرب في الخطاب المصرى لا يعنى ضعفا أو ترددا كما اشار إلى ذلك الرئيس عبد الفتاح السيسي وإنما تعنى اعلاء قيمة السلم والامن والتنمية للجميع، وكان أولى بالرئيس الاثيوبى الذى حصل على جائزة نوبل للسلام ان يكون داعيا حقيقيا للسلام وإلا ما هى فائدة هذه الجائزة وما هى الاسس التى على أساسها حصل على هذه الجائزة؟
نهاية القول إن توجه مصر بأوراق القضية إلى اروقة مجلس الامن يؤكد على موقف مصرى قوى قادر على الدفاع عن حقوقه وأمنه في مقابل موقف اثيوبى متخاذل ويعلم أنه يخالف كل القواعد والاعراف والقوانين، وهو ما يستوجب ان تضع مصر كافة ملفاتها التاريخية والحقوقية بل وما تم التوصل إليه من وثائق تفاوضية امام الرأى العام العالمى ليرى من يراوغ ويتلاعب ويهدد الامن والاستقرار في منطقة حبلى بالصراعات والنزاعات التى يدفعها ثمنها الشعوب التى حلمت في حكومات تحقق مصالحها لا أن تضعها في فوهة البنادق سعيا لتحقيق مصالحها الضيقة على مصالح شعوبها، فهل يعى الشعب الاثيوبى ما تمارسه حكومته حينما تتلاعب بمصيره ومصير ابناءه ومستقبلهم وتلقى بهم في أتون صراعات الكل فيها خاسر؟ تلك رسالة إلى الشعب الاثيوبى لعله يردع حكومته عن الاستمرار في طريق اللاعودة.