كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا عندما رن التليفون؛ نظرت إلى ساعة الحائط ثم إلى رقم المتصل الذي لا أعرفه وترددت في الرد وخلال دقائق معدودة كان يعاود الاتصال فرديت استجابة للإلحاح. كان الصوت نسائيا على الجانب الآخر يصل ضعيفا منكسرا يطلب المساعدة.
قالت أنا (سلمى. م.) طالبة في السنة النهائية من كلية الطب بإحدى محافظات الدلتا تعرضت للضرب من طرف والدي وأخي وطرداني من المنزل في هذه الساعة المتأخرة.. ولجأت إلى صديقة لقضاء ما بقي من الليل في ضيافتها.. وأضافت أنها تتصل من تليفون صديقتها لأنها طُردت دون أن تستطيع حمل شيء من أغراضها وأنها من دلتها عليَ طلبا للمساعدة في إيجاد مكان آمن تابع لبيوت المعنفات التي تشرف عليها وزارة التضامن.
انسابت حكايتها مع دموعها وهي تروي كيف أنها طالبة متفوقة بكلية الطب في السنة النهائية وأن شقيقها الأصغر الذي وصفته بالمتشدد في أفكاره يعنفها بشكل متكرر لأنها لا ترتدي الحجاب ويشتمها بألفاظ مشينة ويطلق عليها "الفاجرة" لأنها تعود للمنزل في وقت متأخر بعدما تنهي عملها بأحد المستشفيات الخاصة حيث يساعدها دخلها منها في تدبير مصروفها اليومي وتغطية التكاليف الباهضة لمستلزمات الدراسة التي لا يقدر أب على المعاش وأخ عاطل تأمينها لها.. وفي آخر مشاجرة بينهما تدخل والدها بعد أن سالت دماؤها من وجهها نتيجة الضرب وفرض عليها ترك الدراسة وهددها بالقتل لو فكرت في الخروج من المنزل عقابا لها على عدم الاستماع إلى أوامر أخيها.
أنهينا المكالمة بالاتفاق على تدبير إقامة لها على وجه السرعة تمتد على الأقل لبضعة أشهر فقط تعتبر مصيرية في تحديد مستقبلها والانتهاء من دراستها حينئذ قد تستطيع تدبير شئون حياتها.
ومنذ تلك الليلة بدأت قصة البحث عن مكان آمن لسلمى وتنقلت في البداية ما بين شقة صديقتها وإقامة بأحد الجمعيات الأهلية، لينتهي بها المطاف بعد يومين في أحد مراكز دعم المرأة المعنفة التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي.
وداخل البيت الآمن استقبلتها المديرة وأخذت بطاقتها وأمام آثار العنف الظاهرة على وجهها استدعت الطبيب والمحامي وأخصائية اجتماعية ونفسية للتعامل مع الحالة، وتم الاتفاق على تحرير محضر بقسم الشرطة لإثبات التعدي الذي تعرضت له بدنيا، وذلك بعد الانتهاء من عمل أشعة لتبين ما إذا ماكانت كدمات أو كسور وتدوين تقرير طبي بحالتها. غير أن الفتاة عادت وتراجعت عن عمل محضر بدعوى تلافي الفضيحة واتقاء شرور هي في غنى عنها.
قصة سلمى تتكرر لدى ملايين الحالات في مصر والبلاد العربية بل وفي شتى بلدان العالم. وفي مصر يُقدر عدد مراكز استضافة وتوجيه النساء المعنفات بـ9 مراكز تغطي محافظات الإسكندرية والقاهرة والجيزة والقليوبية والدقهلية والفيوم وبني سويف والمنيا. وتحوي تلك المراكز تفاصيل قصص مأسوية تقشعرّ لها الأبدان مسرحها منزل الأسرة وبيوت الزوجية وتتنوع ما بين ضرب وتعذيب وحرق. ولا يمكن أن أنسى قصة تلك السيدة العجوز التي التقيت بها في مركز تابع لمحافظة الدقهلية كانت ضحية عنف ابنها الذي ضربها وكسر أسنانها وأحد ضلوعها وترك جروحا في جسدها الضعيف التي وإن اندملت فإن آثارها النفسية لن تغيب عن ذاكرتها فيما بقي من أيام عمرها.
فكرة البيوت الآمنة كمراكز لإيواء المعنفات بدأت في الولايات المتحدة في أربعينات القرن الماضي، ومع بداية القرن الحالي وصل عددها إلى نحو ألفين. وفي أوروبا أنشئ أول بيت آمن للمرأة في سبعينات القرن الماضي، فيما ظهرت في قارة آسيا خلال التسعينات العديد من مراكز الإيواء للنساء الناجيات من العنف وذلك في إستجابة لزيادة ظاهرة ضحايا العنف. يؤكد موقع هيئة الأمم المتحدة للمرأة أنّ امرأة من بين كل 3 نساء في العالم تعرّضن لعنف جسدي أو جنسي على الأقلّ لمرّة واحدة في حياتهنّ وغالبًا ما يكون ذلك من قبل شريكهنّ الحميم.
وفي مصر ظهر أول بيت آمن في عام 2003 ضمن سلسلة مشروعات لفائدة المرأة. وتطورت هذه المراكز بشكل كبير منذ 5 سنوات في إطار رؤية تنموية أكثر شمولا تتبناها وزارة التضامن ضمن مفهوم توسيع شبكات الحماية الاجتماعية للفئات المهمشة والضعيفة ومنها المرأة والأطفال حيث تستضيف المراكز النساء ضحيايا العنف وأطفالهن وتوفر لهن المأوى المجاني وتدريب على صناعات حرفية إذا لم يكن لديهن عمل، إضافة إلى الدعم القانوني والنفسي والمساندة وسط جو أقرب إلى جو الأسرة.
وهناك في مصر امرأة واحدة من كلّ 4 نساء تعرضن للعنف من قبل الزوج وفق تقرير صادر عن المركز المصري لحقوق المرأة وهو منظمة غير حكومية.. بينما يؤكد "مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع االجتماعي" الذي أشرف عليه المجلس القومي للمرأة في 2015 بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية أن هناك 18% من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18 و64 سنة يتعرضن للعنف من أحد أفراد الأسرة. ولعل نتائج المسح ساهمت في اتخاذ سياسات أكثر فعالية ومبنية على الأدلة في التعاطي مع الظاهرة من ذلك تعميم مكاتب تلقي الشكاوي في المحافظات وإنشاء الخطوط الساخنة المرتبطة بوحدات خاصة بالعنف ضد المرأة في الوزارات المعنية وتحديد نظام استقبال للحالات ودليل إرشادي بالإضافة إلى التدريب على تقديم الدعم المتخصص سواء القانوني أو النفسي أوالطبي داخل المستشفيات.
وقد لوحظ في الفترة الأخيرة وبعد فرض الحجر المنزلي بسبب وباء كورونا زيادة ظاهرة العنف ضد النساء في شتى أنحاء العالم بما في ذلك مصر.. ولعل الظرف الاجتماعي الذي أحاط بزيادة الظاهرة في مصر والدول العربية يختلف عنه في البلدان الغربية؛ فاضطرار الرجال للجلوس في بيوتهم غير روتين حياتهم رأسا على عقب لم يعد هناك ما يشغل الزوج في فراغه المحفز للتوتر إلا المراقبة مع تصيد الفرص للمشاجرات مع الزوجة التي تدخل المطبخ وربما لساعات أطول مما اعتادته في السابق لأنها ستحضر أنواع الطعام والمأكولات من كافة الأصناف، ولأن هم الكثير من الرجال في أوطاننا مازال في معدتهم، والفوز برضاهم يرسخه المجتمع على أنه دور مقدس مازال يعتمد إلى حد بعيد على عدد الأصناف والأنواع والمذاقات من الأطعمة. لا نتحدث عن بيوت أصبحت تأكل من خارج مطابخها أو بأيدي غير أيدي رباتها ولديها الإمكانيات لتحقيق ذلك- فهي مازالت استثناءا- لكني أتحدث عن غالبية عائلاتنا المصرية وحتى العربية التي مازالت نساؤه يدخلن مطابخهن لساعات طويلة وقياسية يبدعن دون حمد أو شكر بل إن التعرض للعنف والتوبيخ قد يكون مصيرهن بسبب نقص في الملح أوزيادة فيه أو تأخر عن إنجاز الدور المقدس وإظهار علامات الرضا والطاعة إزاء الرغبات المبجلة.
والغريب أن المراقبين المتخصصين في قضية العنف ضد النساء من خبراء وجمعيات أهلية يؤكدون أن الإبلاغ عن حالات العنف من طرف النساء ضعيف للغاية ولا يعكس حقيقة الحالات المعنفة في الفترة الأخيرة والسبب وراء قلة الإبلاغ هو نفسه السبب وراء زيادة العنف المنزلي ألا وهي إجراءات الحجر المفروضة لمنع تفشي فيروس كورونا. فهذه الإجراءات جعلت غالبية هؤلاء النساء حبيسات المنزل ولا عزاء لهن في متابعة المسلسلات ومشاهدة شيوخ الفضائيات واتباع نصائحهم لتفادي العنف وحتى تسهل مهمة قيادةن وتوجيههن وضربهن إذا دعت الحاجة للتهذيب والإصلاح.. ثم التحسرعلى الكرامة المهدرة أو الحب الضائع والرضا بالنصيب.
وقد صدر نهاية شهر أبريل الماضي تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان يبعث الرعب في النفوس السوية بما احتواه من احصائيات عن العنف المنزلي خلال جائحة كورونا حيث قدر عدد الحالات الإضافية بـ 15 مليون حالة خلال عام 2020 في ظل وصول متوسط فترة الحظر والإغلاق إلى 3 أشهر، وترتفع التوقعات إلى نحو 31 مليون حالة مع وصول متوسط مدة الحظر إلى 6 أشهر، وسوف تصل إلى 45 مليونًا إذا ما وصلت مدة الحظر إلى 9 أشهر، و61 مليونًا إذا كان متوسط فترة الإغلاق لمدة عام. فكم سيكون نصيب مصر من هذا الانفلات في الظاهرة؟ هذا ما ستسفر عنه دراسات في الغرض تعكف عليها كافة الدوائر المتخصصة في وضع المرأة وفي مقدمتها المجلس القومي للمرأة.
وتعريف الأمم المتحدة للعنف الممارس ضد المرأة بأنه "أي فعل عنيف يترتب عليه أو يرجح أن يترتب عليه أذى أو معاناة للمرأة سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة". والسلوك العنيف إذا كان من طرف أب أو زوج إنما يعكس ثقافة اجتماعية ممتدة لسنوات وأجيال وأصبحت جزءا من السلوك الفردي الغالب؛ لذلك فإن العنف الممارس من قبل مرتكبي جريمة العنف يعني سلوكا متكررا وليس استثنائيا يتسبب في حدوث ضرر جسدي أو جنسي أو نفسي بما في ذلك الاعتداء الجسدي والإيذاء النفسي وسلوكيات السيطرة والإساءة اللفظية والتنمر وهذا يحتاج حاليا لرؤية متكاملة مترجمة إلى سياسات عامة للتقويم الاجتماعي والإصلاح السلوكي، تصاحب ما تم إنجازه من قوانين وقرارات لصالح ضحايا العنف مهما فعالة في الردع ولكنها قاصرة عن القضاء على هذه الظاهرة. ولابد أن نعترف في الأخير أن مفهوم العنف مازال الكثير من الرجال في بلادنا لا يرونه جريمة. فالشتيمة والسب والإهانات و"مد اليد للتخويف" وصولا للضرب مازال المجتمع يتقبله في إطار "تهذيب" المرأة وإصلاحها ويستخدمون في ذلك كل الوسائل لإضفاء طابع الشرعية الأخلاقية والدينية والاجتماعية على هذا السلوك الذي هو أصلا سلوك مريض ومنحرف ويحتاج علاجا وسياسات طويلة الأمد لاقتلاع العنف من الجذور.
olfa@aucegypt.edu