الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"يا حبيبتي يا مصر"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الشمس تمَيلُ نحو مُنتصفِ الظّهيرة، نحن الآن أواخر يوليو، وما ادراكَ ما يوليو، ثُم ما أدرَاكَ ما يوليو في صَعيدِ مصر، توقفتُ للحَظاتٍ اُجَفِف عرقي المُتساقِط مني، في منتصف شارع الحسيني، ولمن يعرف المنيا أو يجهلها فهذا الشارع، يُعتبر شارعا رئيسا من شوارع المحافظة الجميلة، تتركز فيه اغلب أنشطة التجارة مما جعلهُ قِبلة كُلّ قاصد، لا تهدأ الحركة فيه أبدا ولا تنقطع منه الرِّجل، تسير الحُشود في تزاحمٍ شديد، وجوه مصرية خالصة تتتوع طوائفها، وتختلف مساربها فلاحين وعمال وأفندية وأولاد بلد، يموجُ الشَّارعُ وتمور ممراته وحاراته بأصحَابِ الحاجات زبائنَ من كُلّ لونٍ، فإذا قُدِر وسِرت فيه لحاجةٍ أو رمى بِكَ الشّوق، فستطالعك وعلى فتراتٍ اصوات وتتداخل أخرى، جِدالٌ وفِصَال: لا دا غالي .. عايزين لون تاني ...مفيش مقاس أوسع... وغير ذلك من كلام الباعة .
شارع الحسيني العمود الفقري لحركةِ التجارة في المحافظةِ، تتقاطر الجموع عليهِ من كافةِ القُرى والنُّجوع المحيطة؛ للتسوقِ وقضاء كثيرٍ من الأعمالِ، هكذا عرفناهُ مُنذ أن عَرِفَ الفلاح طريقه للبندر .
اشتدت وطأة الحَرّ بعد َ أن توسّط قرص الشَّمس قُبة السماء، فزاد من لهيبها وضاعَفَ من تسلطها، فانسكبت من الفَضاءِ المُلتهب حِمم العذاب والسّعير التي امتزجت بأشعتها، ليجأرَ منها الغلابة ويستغيثون منذ مقدمها.
ومما حبا الله بهِ الحسيني؛ أن حركة المارة فيه لا تتوقف، فجماعات البشر الذين حجّوا ولبّوا، وطافوا كُلّ شِبرٍ فيه منذ الشروق، ما إن تهدأ حتى تعود سيرتها الأولى، وتِلكَ خصيصة ميّز الله سبحانه بِها شعب الكِنانة مُنذ الفراعين الشِداد، شعب دؤوب لا يَعِف الكسل ولا التراخي .
نظرتُ من حولي بعد أن نبهني حمال يجرّ عربته بعبارةٍ لطيفة، ونغمة عذبة سليمة الجُرس لا تخلو من ظُرفٍ: جنبك يا فندي.. وسع يا بيه.. ضهرك يا باشا .
تحركت سريعا، قاصِدا مكانا بعينه، هو الوحيد القادر على أن يُخفف عني هول ما أرى، محل للعصيرِ أعَرفِه منذ زمنٍ بعيد، فكلّما هبطت المنيا صيفا أو شتاء، لابد أن يكون لي مزارا، كما تعوّد العامة زيارة ضريح الفولي أبو سليمان قُطبها الشَّهير.
وصلت المحل، اشّرت للبائع الذي توسًط النصبة يلبي طلبات زَبائنهِ في في خِفةٍ وحيوية، لحظاتٍ وناولني صاحبنا كوب العصير الألذّ، تطفو من فوقهِ رغوة صفراء، دلالة على أن محتواه لم يمسسه ماء، وفي نفسٍ واحد ابتلعته في استسلام، قليلا قليلا هدأت ثائرتي، واستقرت أنفاسي، واستقرَ قلبي وانتظمت دقاته، وبردَ جلدي الذي أوشكَ أن يحترق .
شعرت بتيارِ هواء ٍمُنعشٍ لطيف يتخللّ ملابسي التي اغرقها العرق، حتى انسابت قطراته على ظهرى.
اشّرت للساقي ثانية كي يجودَ عليّ بكوبٍ ثان، اتخذتُ مكانا اجلس فيهِ، كرسي على مَقرُبةٍ من بابِ المحَلِ، اطالعُ في ارتياحٍ وجوهِ المارة من أمامي، وأتأمّل واجهات المحال التي كُسِيت بالبضائع من كُلّ صنف.
وعلى حينِ غِرةٍ، جذبني صوت المذياع القريب مني، أغنية وطنية يَصدحُ بها العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، مطربي المُفَضل، كلمات اعشقها ولها معي ذكرى.. بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان.. في معادك يتلموا ولادك يا بلادنا وتعود أعيادك.. والغايب ما يطقش بعادك يرجع ياخدك بالأحضان .
التفت للرجل، وبابتسامة قُلتُ له متسائلا: هي الأغاني دي ليه ياريس..؟! ردّ صاحبنا دون أن ينظر إليّ، وهو يرتب الأكوابَ بسرعةٍ : النهاردا عيد الثورة يا فندي، كل سنة وأنت طيب.
تعجّبتُ من نفسي، كيفَ لي نسيان مناسبة عزيزة كهذه، انشغلت ثانية بكوبِ العصير، ولكني لم اشغل عن ذكرياتٍ عذبةٍ، بدأت تطوفُ من حولي، تمسّ رأسي كما تمسّ أجنحة الفراشات، وأبو الدقيق رؤوسَو البرسيم البيضاء .
وعلى عجلٍ تذكرت الأفندي، فلمثلِ هذه المناسبات طقُوسها الخاصَة عنِده، تعود رؤيته صغيرا من فَوقِ سطح بيتنا، يستيقظُ مُبكرا في هِمةٍ ونشاط، تتطاير أنغام مِذياعهِ الخشبي الكبير، مُتَوسطا صاَلة منزلهِ، فتغمره الأناشيد والأغاني الوطنية، في تلك الأونة يتغيّر مِزاج الأفندي تماما، ترى وجهه وقد ارتسمت عليهِ خيوط الفرحة، واعتلت تجاعيده ابتسامة مشرقة كسر الجد منحنياتها، يُدير طولمبة المياه ، من بعد الفجر ؛ يسقي أحواضَ النعناع والرَّيحان والخضروات التي ملأت حديقته من كُلّ نوع،ٍ يُردد الرجل بصوتٍ عال تلك الأهازيج الحماسية المُبهجة خلف مذياعه، وبين الفينة والأخرى يؤشِّر ويلّوحُ بقبضةِ يدهِ مع اشتداد حماسِ اللّحن.
رأيته كثيرا يتغنى بكلماتٍ لم افطنها، ولا أعرِف ما تعني: فدائي فدائي أموت اعيش ميهمنيش.. كفاية اشوف علم العروبة باقي.
ويعقبها بأخرى اشدّ حماسا فهو يردد كلماتها، وقد استجمع قواه ضاربا الأرض بقدميهِ، ومرات يمشي مشية عسكرية منتظمة: خلي السلاح صاحي صاحي.. لو نامت الدنيا صاحي مع سلامي ..
ومرات يتمايل طّربا، يلف ويدور منشرح الصدر كطفلٍ صغير، يردد بصوت جهوري: وصباح الخير يا سينا .. رسيتي في مارسينا.
ولَعلّ ذروة انفعاله تتحقق، عندما يزمجر كالأسدِ الهصور: عاش إللي قال للرجال عدوا القنال.. عاش إللي حول صبرنا حرب ونضال .
يتعالى صوته منُفردا بكلمةِ ( عاش) تماما كما يُكرر الكُورال خلف المُغني، ولكن مع الأفندي للحنِ والكلامِ والأداء مُذاقا مُغايراً.
في هاته اللحظات تفتّحت من أمامي ضروبا مزهرة بحبِ الوطن، والتغني بأمجادهِ، وتخليد ذكرى انتصاراته في رحاب الأفندي، ذاكَ العجوز الذي انقطع عن دنياه كرهبان التبت، ولكنه لم ينقطع عن حب وطنه وعشق ترابه.
شاءت الأقدار أن أكون من مريدي الأفندي، بل ومن أخصّهم، ساعتئذٍ عرفت الرّجل عن قُربٍ، بعيدا عن نوباتِ المراقبة.
عشقَ الرجل مصر، فلم يترك عشقها مكانا في قلبه لسواها، رأيته مرات ٍ ومرات يتعزّل في الاشتراكية ورجالها، ويُشيد بناصر وانجازاتهِ، ويقصّ في حماس رويات تُؤرِخ مسيرة هذا البطل القومي والعروبي المُخلص، يعدد تضحيات جيش مصر الباسل في فلسطين ويتَحسّر على خِيانةِ النّكبةِ.
اخذني سرده التاريخي المُشوّق، عن حِقبة الملكية، وكيف انتزع َناصر ورفاقه مصر من براثن الظلم والاستبداد، لتعودَ لأبنائها، يحَتدّ الرجل حينَ يتكلم عن مساوئ الإقطاع، ثم يلين وهو يُعددّ محاسنَ الإصلاح الزراعي وتأميم القناة، يهبّ من مكانهِ واقفا يتنمّر كالنمّرِ العجوز، يضرب الأرضَ من تحتهِ، ويصيح: قلنا هنبني وأدي إحنا بنينا السد العالي .. يا استعمار بنيناه بإيدينا السد الغالي .
ومع مقدم أكتوبر، يُصرّ الأفندي على تواجدي معه مُنذ الصّباح الباكر، يُغرِق أرضية الحديقة ومداخل البيت بالماءِ، يُسارِع في تحضير الشاي المطبوخ الذي تفوحُ منه رائحة النعناع تُزكم الأنوف ، سريعا يُهيء الراديو بعد أن يثُبت مُؤشِره على إذاعة صوت العرب ، عندها يصمت الأفندي ولا ينطق مكتفيا بهزّ رأسهِ، اشعر وكأنّ الرّجل مسلوب الإرادة ، تراه مشدوها بأنغامٍ الأثير ، ومع وصلاتِ أغانيه الوطنية التي لا تنقطِع عن العبور وذكراه .
وبعد قليلٍ يترحّم الافندي بصوتٍ جهوري على أبطالِ النّصر وقادته، يُحرِك ملعقة الشّاي ، ثم يرمي إليّ بطرفهِ في تباهي ، قائلا: إنا عارف ساعة إذاعة بيان العبور أنا كنت فين ..؟ كنت في القاهرة ماشي في ميدان التحرير ، مش عايز أقولك عملت إيه.
ثم يعودُ لصمتهِ، وقد اغرورقت عيناه بالدموعِ، يُجاهد كي يتمالك نفسه ، وقد اختلجت أنفاسه واضطربت يده، يعاود الحديث بصوتٍ مبحوح : لولا ربنا وأكتوبر والسادات كانت إسرائيل كلتنا..
لقد مثّل بيت الأفندي المحضن الوطني الذي تلقيت فيه أولى ابجدياتي في حُب مصر وجيشها ، في مدرسة الأفندي تعلمت كيفَ اُحِب هذا الوطن واتغنى بمآثر عظمائه، تعلمت فنون الحُب الخالد ، أصبحتُ أرى في مصر كُلّ شيءٍ ، ففي رايتها شموخي وكبريائي ، وفي ترابها شرفي وعزتي ، وفي نيلها دمي ، وفي واديها الفضيلة ، وفي جيشها المجاهد وابطاله الشجعان أهلي وعزوتي .
وعلى خينِ غرةٍ نبهني البائع ، وهو يُقدِّم لي باقي الحساب ، عدت ثانية وانغمست بين سيول الزحام ، وأنا أردد... يا حبيبتي يا مصر .