الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ما بعد «الجاز» إلا «البلوز»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كتبت لكم الأسبوع الماضى عن موسيقى "الجاز" لدى الأمريكيين السود البشرة والأفروأمريكيين، فسألنى البعض: "ماذا عن البلوز؟!".
أستطيع أن أجزم أن سؤالهم عن موسيقى البلوز جعلنى أتذكر جملة أرددها وأؤمن بها: "ما بعد "الجاز" إلا "البلوز". وكنت أقصد بها أن مدمنى سماع الموسيقى التى تدفع بهم دفع السكين في الشطيرة نحو الحنين والذكريات المنهكة، لا بد أن ينتهى بهم الأمر لسماع موسيقى حزينة رمادية، تبقيهم قيد الحزن المحشو بالذكرى. تلك الذكرى المخملية التى تتلو عليك تراتيلها باستكانة لا شوك فيها مرارًا حتى تأسرك. فالجاز دعوة للحنين والبلوز ماهو إلا ذلك الحنين الحزين الأزرق. يشار للمزاج السيئ بأنه مزاج أزرق وأزرق غامق في بعض ثقافات اللغات الساكسونية والأنجلوساكسونية. وما كلمة بلوز أو Blues إلا جمع كلمة Blue فهى ليست مزاجًا أزرق واحدًا بل أمزجة زرقاء ممزوجة في كأس من الموسيقى.
تنحدر البلوز من موسيقى العمال السود في أمريكا مخلوطة بالموسيقى الكنسية المعروفة بالغوسيل، بدأ قائد إحدى الفرق الموسيقية بتطبيع نغمات السود الفولكلورية التقليدية في شكل أغانٍ كسبت رواجا شعبيا كبيرًا عام ١٩١٢م. نشأ البلوز في دلتا نهر المسيسبى، ليشارك الجاز في وطنه، ويظل قريبًا منه في معظم حالاته وتقلباته على نحو أو آخر. وفى العشرينيات من القرن الماضى اكتسبت آلات العزف الخاصة بموسيقى البلوز شهرة واسعة، خاصة أعمال العزف على البوق للويس أرمسترونغ. وفى الثلاثينيات أصبح نموذج البوجى ـ ووجي، للعزف على بيانو البلوز، شائعا ورائجا. وتقوم الكثير من أغانى البلوز على تركيبة غنائية بسيطة تتكون من اثنى عشر مقطعًا شعريًا. غير أن الكثير منها تتضمن أيضا خليطا عجيبا من النغمات المرتجلة في بنيتها. كما أن موسيقى البلوز تعرف التنوع وتشمل العديد من الأنماط والأشكال الإقليمية مثل نمط "شمال مسيسيبى" المتأثر بالموسيقى الأفريقية إلى حد بعيد. ويتميز هذا النمط ببناء زخم موسيقى يرتبط بنوتة معينة ويستمر طوال الأغنية وهى تحتل موقعا شبيها بموقع " المقام " في الموسيقى العربية. ظهرت مع البلوز آلة البونجو الوترية التى سجلت براءة اختراعها على يد هذه الموسيقى الأفريقية.
عبر السود بالبلوز عن حالة الشجن العميق التى انتابتهم وما زالت تنتابهم منذ فارقوا القارة الأفريقية، وهى موسيقى تربط بهدوء وقور بين الجاز بحزنه الراقص والروك أند رول بصخبه الحيوى، واستطاع الزنوج أن يحملوا أغاني البلوز فقرهم ومرضهم ومشكلات العنصرية والعنف وقصص الحب التى يعيشونها. طريقة جديدة لكى تأخذ الحياة نظرة إلى حياتهم. إذ يصف المؤرخون البلوز دائمًا بأوصاف تقترب من المشاعر. يؤكدون أنها موسيقى تعبر عن القلب وما يوجد فيه بطريقة تتناسب مع التحرر من العبودية نحو المعاناة من مشكلات الحياة اليومية وسوء الحظ والمعاملة العنصرية في أمريكا. عامرة بذلك القلب النابض بالحنين الحزين لحب جميل حر. كأنها بلب مسجون لكنه لم يفقد القدرة على الغناء فصار يبكي كلما غنى. ينثر اللون الأزرق عبير في أوتار حنجرته إلى العالم الكبير.
لم ينسب أحد البلوز لمبتدع واحد حتى اليوم، وهناك حكاية يرويها قائد فرقة Minstrel Show يروى فيه كيف أنه قابل عام ١٩٠٣م عازف جيتار متجولا عرفه على البلوز، وهى الحكاية الأشهر، لكن هذا لم يمنع الكثيرين من الادعاء بأنهم ابتكروا البلوز. حتى تفرق ميلاده بين من اعتنقوه.
الموسيقى حياة صغيرة معلقة بوتر. حين ينقطع الوتر تنضم لحياة أخرى على وتر آخر. الموسيقى تكبر ولا تموت طالما هناك أوتار. كان هذا هو البلوز الذى يأتى بعد كل جاز من وجهة نظر شخص يقوده الحنين للحزن إلى الحزن ذاته.