رغم ترحيب الولايات المتحدة وروسيا ودول الاتحاد الأوروبى بإعلان القاهرة، بشأن حل الأزمة الليبية، إلا أن غالبية عواصم تلك الدول لا ترى فيما يبدو أن الوقت قد حان بعد لتفعيل المبادرة المصرية، انتظاراً لما ستسفر عنه معركة سرت المدينة الساحلية التى تتوسط ليبيا والأقرب لموانئ تصدير النفط والمطلة على منطقة الهلال النفطى الليبي.
ففيما تراوح موقف ما تسمى حكومة الوفاق من إعلان القاهرة بين الرفض على لسان كلٍ من فايز السراج والإخوانى خالد المشرى رئيس مجلس الدولة، ثم المراوغة كما جاء فى تصريح لوزير الداخلية المفوض فتحى باش أغا بقوله أن "مصر قادرة على انهاء الانقسام الليبى والمساعدة على حل مشكلات بلاده، وأن كل مبادرة تدعو للتسوية السياسية والدولة المدنية مرحب بها"؛ فإن هجمات مليشيات السراج ومرتزقة أردوغان على مدينة سرت لم تتوقف تنفيذا لإرادة راعى الإرهاب الدولى رجب طيب أردوغان الداعم الأول لعصابة السراج الذى أعلن إصراره على احتلال مدينتى الجفرة وسرت للاستيلاء على ثروات ليبيا النفطية.
وعلى ما يبدو أن الجفرة وسرت ومنطقة الهلال النفطى كانت الخطوط الحمراء التى تم التوافق عليها من جانب القاهرة مع الأطراف الدولية الفاعلة فى الملف الليبي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى) وذلك قبيل إعلان المبادرة المصرية الأخيرة لحل الأزمة وبحسب وسائل إعلام غربية كشف دبلوماسيون أوروبيون أن مصر حذرت من أن الاقتراب من سرت لن يجعلها تقف مكتوفة الأيدى ويبدو أن موسكو أرسلت نفس التحذيرات للعواصم الغربية.
وفى مؤتمر صحفى للمتحدث الرسمى للجيش الوطنى الليبى اللواء أحمد المسمارى عقده الأسبوع الماضى وجه حديثه لحلف النيتو متسائلا عن مدى استعداده لدخول حرب من أجل مساعدة تركيا لاحتلال بلاده؟!، ورغم ما ينطوى عليه التساؤل من صيغة استنكارية فى الظاهر إلا أنه كان إشارة واضحة إلى إصرار الجيش الوطنى الليبى على محاربة المحتل التركى وكل من يقف وراءه حتى لو كان النيتو موضحاً أن تلك الحرب سيقودها بدعم الأصدقاء الإقليميين والدوليين.
زعيم النيتو واشنطن أعلنت اعتزامها إرسال قوة مراقبة أمنية تتخذ من تونس قاعدة لها، وبعد ترحيبها بإعلان القاهرة صرحت وزارة الخارجية الأمريكية لموقع العربية نت أن تواجد روسيا فى الجفرة وسرت مقلق ويثير الكثير من المخاوف؛ لكن الخارجية الأمريكية اقتربت فى نفس التصريح كثيراً من المبادرة المصرية بل أنها استخدمت بعض النصوص الواردة فيها خاصة ما تعلق بضرورة التزام جميع الجهات الأجنبية بسحب مرتزقتها ومعداتها العسكرية وأسلحتها من الأراضى الليبية مع التأكيد على أن مخرجات برلين والمباحثات السياسية والأمنية التى تقودها الأمم المتحدة هى الإطار الرئيس لحل الأزمة الليبية وهو ما ارتكزت عليه أيضا المبادرة المصرية.
لكن الولايات المتحدة لن تباشر باتخاذ أى خطوة نحو الضغط على تركيا العضو فى حلف النيتو لسحب مرتزقتها قبل أن تطمئن إلى سحب روسيا كافة أشكال الدعم الذى تقدمه للجيش الوطنى الليبى وتركت أردوغان يواصل مخططه فلعله ينجح فى احتلال الجفرة وسرت ويفرض سيطرته على الهلال النفطى لتبدأ عملية مفاوضات جديدة لكن هذه المرة على أسس ومرتكزات مختلفة لن تشمل قطعاً سحب المرتزقة السوريين والأتراك.
موسكو بدورها سعت فيما يبدو للتوصل لتفاهمات مع أنقرة تسمح ببدء عملية التفاوض ووقف إطلاق النار تمهيداً لتنفيذ بنود المبادرة المصرية تحت رعاية أممية، لكن مخاوف واشنطن وأطماع أردوغان فى النفط الليبى دفعت الأخير للإصرار على موقفه بضرورة المضى قدماً حتى الهلال النفطى؛ وكانت سرت العقبة التى حالت دون إتمام اجتماع بين وزراء خارجية ودفاع كل من البلدين روسيا وتركيا الأحد الماضى.
أثناء إعداد هذا التقرير تواترت أنباء من ليبيا تفيد بتحرك أرتال المرتزقة الأتراك وعصابات السراج من عدة مدن ومناطق فى غرب ليبيا نحو محيط مدينة سرت شرق مصراته، كما أفادت صفحات بموقع التواصل الاجتماعى فيسبوك موالية لعصابات السراج ومليشيات مصراته أن معركة سرت قد أوشكت.
اجتماع وزراء خارجية مع وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو انتهى الإثنين 15 يونيو دون مناقشة تفاصيل الأزمة الليبية رغم طلب فرنسا واليونان بوضع المسألة على أجندة الاجتماع ما يعكس استمرار تناقض المواقف الأوروبية فرغم ترحيب إيطاليا بإعلان القاهرة إلا أن وزير خارجيتها أعلن زيارته لتركيا الأربعاء 17يونيو والمعروف أن روما طالما دعمت عصابة السراج مقابل ما تتحصل عليه من فوائد ليس آخرها النفط والغاز الليبى المهرب إليها.
باريس أصدرت خلال اليومين الماضيين فقط بيانين رسميين متتاليين عن الرئاسة والخارجية الفرنسية شددت فيهما على أن التدخلات التركية فى ليبيا عدوانية وغير مقبولة مؤكدة أنه ستطلب مناقشة الأمر داخل حلف الشمال الأطلسى "النيتو" وقد اعتبرت الرئاسة الفرنسية تكثيف الدعم التركى لعصابة السراج وإرسال أنقرة سبع بوارج حربية أمام السواحل الليبية عملاً عدوانياً قد تسبب فى كثير من المشكلات؛ وهو ما يعنى بالضرورة أن فرنسا تعتبر التدخل التركى السافر فى الشأن الليبي عدوان صريح على مصالحها، وأنها قد تتدخل لمنع سقوط مدينة سرت ومنطقة الهلال النفطى فى يد الاحتلال التركى العثمانى خاصة وأن تتركز فى تلك المنطقة شركات البترول الفرنسية.
التحذيرات الفرنسية تأتى فى الوقت الذى تقاعس فيه الاتحاد الأوروبى عن مجرد مناقشة المسألة الليبية مع وزير الخارجية الأمريكى رغم اعترافه الأسبوع الماضى بفشل عملية إيرينى لمراقبة البحر المتوسط ومنع توريد السلاح إلى ليبيا عندما وجهت فرقاطة حربية تركية تحذيراً إلى سفينة يونانية تعمل فى نطاق "إيرينى" ومنعتها من تفتيش سفينة شحن تركية يشتبه أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات عسكرية فى طريقها إلى موانئ غرب ليبيا.
معركة سرت قد تكون الفصل الأخير فى قصة الاحتلال العثمانى الجديد لليبيا لاسيما وأن الأطراف الإقليمية الرئيسة بادرت إلى محاصرة أطماع أردوغان فى البحر المتوسط ففيما وقع كل من اليونان وإيطاليا الإسبوع الماضى اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، استقبلت القاهرة الخميس 18 يونيو وزير الخارجية اليونانى نيكوس دندياس لبحث إبرام اتفاقية مماثلة مع مصر وهو ما يعنى القضاء ونهائيا على أحلام أردوغان فى استغلال ثروات شرق المتوسط وقطع الطريق على أطماعه وإبطال اتفاقيته المزعومة مع فائز السراج الموالى له.
وفى تصريح للبوابة نيوز يقول د. محمد سعد الدين رئيس غرفة الطاقة باتحاد الصناعات ورئيس جمعية مستثمرى الغاز المسال أن اليونان باتفاقيتها مع ايطاليا قامت بتأمين حقوقها الاقتصادية فى حدودها الغربية للبحر المتوسط وهى خطوة من الناحية الفنية وكان يجب أن تسبق قيام أثينا من ترسيم حدودها البحرية مع مصر حيث حدودها الشرقية والجنوبية فى مياه المتوسط موضحاً أنه بعد ترسيم أثينا حدودها مع روما أصبح من السهولة بمكان ومن الناحية الفنية البحتة ترسيم الحدود البحرية مع القاهرة.
وقال خبير الطاقة أن بهاتين الاتفاقيتين لا يصبح هناك مجال أمام سفن التنقيب التركية بالعمل فى نطاق الجزر اليونانية.
انتهى حديث د. محمد سعد الدين ويبقى القول أن أردوغان لم يعد أمامه سوى السعى بكل السبل المجنونة وغير الشرعية للانتصار فى معركة سرت وأنها باتت بالنسبة له ولاقتصاد بلده المنهار مسألة حياة أو موت فبدون سرت لن يتمكن من الاستفادة من ثروات ليبيا النفطية والغازية وربما هذا ما يفسر سعيه الحثيث إلى الاستيلاء على قاعدة الوطية وتحويلها إلى قاعدة تركيا جوية ستكون الأهم فى منطقة المغرب العربى بسبب موقعها الاستراتيجى ليس فقط بالنسبة للعاصمة طرابلس ولكن أيضاً بالنسبة لتونس والجزائر، وإلى العمل على تحويل ميناء مصراته المدنى إلى قاعدة عسكرية بحرية ليضمن تثبيت وجوده العسكري فى منطقة جنوب المتوسط ما يمكنه من الضغط الدائم على أوروبا من ناحية ومد نفوذه فى مناطق شمال وجنوب أفريقيا عبر التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش أدواته الرئيسة فى كل حروبه ومعاركه.
غير أن هذه الأحلام العثمانية تصطدم بإرادات الدول الاقليمية وفى مقدمتها مصر ودول الخليج إضافة إلى فرنسا التى أعلنت مطلع الأسبوع تدشين ائتلاف من أجل محاربة الإرهاب فى دول الساحل والصحراء ويضم 45 دولة من غرب افريقيا إضافة إلى بعض الدول الأوروبية وقد شاركت مصر فى أول اجتماعاته وعرضت جهودها فى دعم دول منطقة الساحل والصحراء عبر الوكالة المصرية للتنمية وخدمات الدعم التدريبى التى تحتاجها جيوش تلك الدول لمواجهة التنظيمات الإرهابية من خلال مركز القاهرة لمكافحة الإرهاب.
فى سياق وجود مثل هذا الائتلاف لن تسمح الدول المشاركة فيه لأردوغان بامتلاك أى قواعد عسكرية داخل الأراضى الليبية لادراكها أن آلاف المرتزقة والعناصر الارهابية التى جلبها من سوريا ستكون أصابعه التى تتسلل إلى باقى افريقيا.