ضع قدمك الحجريةَ على قلبي يا سيدي/ الجريمةُ تضرب باب القفص/ والخوفُ يصدحُ كالكروان"، ثمة غيمة من كآبة تملأ سماء العالم يا "ماغوط" والطغاة لم يبقوا من قوس قزح إلا الأحمر القاني.
طابور اليائسين يزداد بطول العالم، مراسم الدفن وحفلات التأبين والذكريات الرديئة، وألبومات الفجائع التهمت أوقات الابتسام. دموعنا زرقاء من كثرة ما نظرنا إلى السماء وبكينا يا ابن "سلمية"، دموعنا صفراء من كثرة ما نظرنا إلى السنابل الذهبية وبكينا يا صاحب الـ"حزن في ضوء القمر"، وحناجر المهووسين بالدم أصابت الجميع بالصمم.
الجماجم يا "ماغوط" احتلت كل المتون، والغصون الخضراء لا تسعها الهوامش، والبشر أيها الوسيم فشلوا في كل الاختبارات الكبرى، وباءت كل محاولات الأنبياء والقديسين والأولياء بالفشل في تحسين مستوياتهم في مواد الحب والعدالة والعيش المشترك والتعايش السلمي.
الحق أقول لك يا ابن "سلمية" لقد سمعت "راسل" يقول: "في يوم من الأيام شاهدت ولدًا متوسط الحجم يضرب ولدًا أصغر منه فجادلته فقال: الأولاد الكبار يضربونني فأنا أضرب الأولاد الأصغر مني.. هذا عادل.. في هذه الكلمات لخص الطفل كل تاريخ الإنسانية".
والحق أقول لك أيضا إن هذا التاريخ لا يروق لنا فنحن فيه كــــ"العصفور الأحدب" أمام "البدوي الأحمر" الذي لا يجيد التفاهم، ولا يطربه سوى صوته المنكر، ولا يجيد سوى استخدام المقصلة، فالوداعة لم تكن يوما مهنته.
الحق أقول لك يا من اخترت "الحدود" لتبصق على كل دعاة التشرذم؛ إن هذا الجلف الأحمق المُغّرِق في بداوته قد دفعك للانزواء والعزلة، تتأمل وردك الجوري في سرية تامة وربما هو نفسه السبب الخفي في عزلة صديقك "كفافيس" الذي مل الخوف وتجاسر على فضح هذا الأحمق هو وقبيلته: "بنوا حولي أسوارًا ضخمة عالية/ وها أنا أجلس في يأس".
الطغاة يا "ماغوط" لا يعرفون "قانون التسامح" وقوانينهم لا تحوي إلا عقوبة القتل، ومبرراتهم لحروبهم الوحشية لا يسوقها إلا فاشل سابق أو مريض عقلي خيل له أنه ظل الله على الأرض.
قل يا "ماغوط" لابن أرضك الوعرة المحفوفة بالمخاطر "درويش" أن يلتزم الحذر وهو يدافع عن شاعر لا ذنب له سوى أنه أنبت حروفه في الصحراء وهو لا يعلم أنها لن تنبت إلا المقاصل...يا "ماغوط" ها هو "درويش" يستعد للمرافعة، للدفاع عن الشاعر وعن جدوى الكتابة في وجه سادة الذهب المتخمون.. فدعنا نستمع ربما نجد من يعي ما يقول ويٌفرجٌ عن الشاعر الحبيس في محبس النفط المتقد بفوبيا التأويلات والجلد وقطع الرقاب..
"من سوء حظّه أَن الصليب /هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا !/مَنْ هو ليقول لكم/ ما يقولُ لكم/مَنْ هو؟/كان يمكن أن لا يحالفه الوحيُ/ والوحي حظُّ الوحيدين/"إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ"/على رُقْعَةٍ من ظلامْ/ تشعُّ، وقد لا تشعُّ/ فيهوي الكلامْ /كريش على الرملِ /لا دَوْرَ له في القصيدة/غيرُ امتثاله لإيقاعها /حركاتِ الأحاسيس حسًّا يعدِّل حسًا/ وحَدْسًا يُنَزِّلُ معنى/ وغيبوبة في صدى الكلمات/ وصورة نفسه التي انتقلت/من "أَناه" إلى غيرها/واعتماده على نَفَسِه/وحنينه إلى النبعِ /لا دور له في القصيدة إلاَّ/إذا انقطع الوحيُ/والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهد/ نحن الذين كتبنا النصوص لهم/واختبأنا وراء الأوليمب/ فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون/وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون/ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال/هو الواقعيُّ على خشبات المسارح /خلف الكواليس يختلف الأَمرُ/ليس السؤال: متى ؟/ بل: لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ/مَنْ هو ليقول لكم/ما يقول لكم ؟/كان يمكن أن لا يكون/وأن تقع القافلةْ/في كمين، وأن تنقص العائلةْ/ولدًا / هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ/ حرفًا فحرفًا، ونزفًا ونزفًا/على هذه الكنبةْ/بدمٍ أسود اللون، لا /هو حبر الغراب/ولا صوتُهُ /بل هو الليل مُعْتَصرًا كُلّه/قطرةً قطرةً، بيد الحظِّ والموهبةْ/كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو/لم يكن هو، لا غيره، هُدْهُدًا/ فوق فُوَهَّة الهاويةْ/ ربما قال: لو كنتُ غيري/لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ"
ومن حسن حظِّه أَنه ينام وحيدًا/فيصغي إلى جسده/ ويُصدِّقُ موهبته في اكتشاف الألمْ/فينادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق/عشر دقائق تكفي ليحيا مُصَادَفَةً/ويخيِّب ظنّ العدم/مَنْ هو ليخيِّب ظنَّ العدم ؟/ لا أَقول: الحياة بعيدًا هناك حقيقيَّةٌ/ وخياليَّةُ الأمكنةْ/بل أقول: الحياة، هنا، ممكنةْ/ ومصادفةً، صارت الأرض أرضًا مُقَدَّسَةً/لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها/نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ/بل لأن نبيًّا تمشَّى هناك/وصلَّى على صخرة فبكتْ/وهوى التلُّ من خشية الله/مُغْمىً عليه"
يا سادة ارفعوا رأس "فياض" من فوق المقصلة باحترام يليق بشاعر واطلقوا سراحه بعد تقديم الاعتذار لنا جميعا وتعالوا "نحتفل بسوناتا القمرْ/ونسامُحِ موتا رآنا معًا سعداء/فغضَّ النظرْ !"