تنسينا الحياة بضجيجها وصراعاتها أن نستمتع بما نملكه، أو حتى ندرك قيمته قبل فوات الأوان.. وهذا لا ينطبق فقط على الأشياء، بل كل المنح الإلهية، بما فيها من يعيشون بيننا، والذين كثيرا ما نتناسى قيمتهم، ولا نتذكرهم إلا بعد الرحيل.. فندرك لحظتها أننا أضعنا فرصتنا في الاستمتاع بهم والاستفادة من وجودهم..أحد هؤلاء هو الفنان التشكيلي الكبير ومهندس الديكور ومصمم السينوغرافيا المبدع الدكتور حسين العزبى، أحد فرسان الفن المصرى ومبدعيه العظام.. والذي فارقنا الجمعة الماضية، دون أن نظفر بتوديعه في مثواه الأخير، نتيجة للظرف القاسي الذى يعيشه العالم، والذى فرض التباعد الاجتماعي، واقتصار الصلاة وتشييع الجنازات على قلة قليلة من المقربين.. ورغم أن الدكتور حسين عانى الكثير من المشكلات الصحية خلال السنوات الأخيرة، وتم حجزه عدة مرات بالمستشفى.. ولكن شاء الله تعالى ألا تكون متاعبه الصحية تلك سبب وفاته، بل يصبح من ضحايا وباء كورونا اللعين، والذى سرقه من بين أهله وتلاميذه ومحبيه.. فقد دخل مستشفى خاص لمتاعبه المعتادة، ولكن قرر الأطباء بإصرار نقله إلى قسم العزل في المستشفى، بعد أن شكوا في إصابته بكورونا، رغم أنه لم يكن قد أصيب بعد!!..ولكن بمجرد نقله، التقط جسده الوباء، ولم تقو مناعته الضعيفة على محاربته.. ليرحل بهدوء دون صخب، كما عاش دوما!!..والغريب أن هذا الرجل الجميل جمع كل الفرقاء في حبه، فقد كان سمحا طيبا دمث الخلق، يعمل ويبدع أكثر مما يتحدث.. وكان يخفى خلف بسمته الحنونة وصوته الهادئ، ثورة عارمة من الأفكار والأحاسيس التي تتفجر في أعماله الفنية.. وقد ولد في حى السيدة زينب في 14 فبراير 1947.. ونشأ في أسرة ميسورة الحال، فكان جده يملك العديد من العمارات في السيدة زينب، وكانوا يتنقلون بين أكثر من منزل في المنطقة.. ولفت الضوء نظره منذ الطفولة، فكان يتأمل إضاءة المصابيح في الحوارى وانعكاساتها.. وساهمت أسرته في ولعه بالفنون، حيث كانوا ممن يهتمون بوضع اللوحات والتحف.. ومنذ تفتحت عيناه كان يقضى ساعات طويلة مستلقيا على السجادة، كى يتأمل الخطوط والألوان والتشكيلات في تلك الأعمال الفنية.. وكان خاله السبب الرئيسى في تعلقه بالفنون التشكيلية، حيث كان طالبا في كلية الفنون التطبيقية، وكان يصطحبه وهو في الخامسة من عمره للكلية، ويتجول به داخل أقسامها المختلفة.. فتارة في قسم النحت يأخذ الطين ليشكل مجسمات، وأخرى في الأزياء أو المعادن أو الزخرفة أو الديكور.. فعشق تلك الأجواء التى شكلت وجدانه.. وكما شمله الفنانون الكبار-أساتذة خاله- بالترحيب والرعاية، ظل طوال حياته مهتما بالأطفال، يقيم لهم ورشا فنية، ويستضيفهم في منزله، يعلمهم ويلعب معهم ويشركهم في أعماله الفنية.. ورغم أن والده كان يتمنى منه أن يكمل مسيرته كصيدلي.. وعلمه مبكرا قراءة الروشتات ورموز الأطباء، وكان يصطحبه للوقوف في الصيدلية.. إلا أنه رفض الصيدلة، وانتصر لعشقه للفن.. فإلتحق بداية بكلية التربية الفنية، وتركها كى يلتحق بمعهد الفنون المسرحية، ويتخصص في الديكور المسرحى الذى شعر بأنه أصعب وأشمل من أى تخصص آخر وتخرج فيه عام 1971.. ودرس نفس التخصص لعامين في القسم الحر بالجامعة الأمريكية.. وكان قد بدأ بالفعل المشاركة في العديد من المسرحيات منذ كان طالبا.. وقد قدم العزبي نحو 90 عملا مسرحىا منها: (تخاريف.. وجهة نظر.. ماما أمريكا.. أنا ومراتى ومونيكا.. عاشق المداحين.. رصاصة في القلب.. يا غولة عينك حمرا).. كان العزبي يرفض فكرة تنفيذ تعليمات المخرج، ويرى أن مصمم السينوغرافيا - تصميم وتنفيذ المشاهد - يعد مخرجا ثانيا للعمل، يقوم بربط عناصر العمل الفنى، ويقدم رؤيته المبتكرة.. لذا يعد أهم مهندسي الديكور ومصممي السينوغرافيا في مصر، وله مدرسة متميزة تأثر بها كثيرون.. بالإضافة لذلك كان فنانا تشكيليا من طراز رفيع، وأقام وشارك في عشرات المعارض في مصر والخارج.. وكان يعتمد في لوحاته على الخطوط والإضاءة بالألوان.. وأحيانا يستخدم خامات مختلفة ومبتكرة في لوحات أو مجسمات.. ويعد رائدا لفن الضوء باللون، وهو ما جعل أعماله تنبض بالحياة، وتتفاعل وتتغير مع الضوء.. وقد اهتم بالفنون الشعبية، حتى أن أعماله يمكن اعتبارها بمثابة قراءة لجماليات التراث المصرى الذى عبر عنه بحرفية.. وقد ظل العزبى يتعبد في محراب الإبداع رغم مرضه، وكان آخر معارضه التشكيلية في مارس الماضى، بعنوان "التنورة" بمركز الهناجر.. وقد ضم المعرض أكثر من 30 عملا فنيا، تناول فيهم التنورة بأسلوبه المميز في الإضاءة من خلال اللون.. رحم الله هذا الفنان والإنسان الراقي، والذى يستحق أن نحتفى بمسيرته وإبداعاته.. وأتمنى من الدولة التعاون مع أسرته، لإقامة متحف لأعماله الفنية ومقتنياته.. بالإضافة لجمع أبحاثه وتنظيراته ونشرها، كى نظل ننهل من علمه ورؤيته وخبراته.
آراء حرة
العزبى.. خلق الفرسان وعبقرية الفنان
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق