نبضات قلب غير منتظمة ساقتنى ليوم فى غرفة الطوارئ بأحد المستشفيات، لم أكن أعلم أنه يستقبل حالات العزل ومصابى كورونا.. استقبال رحب وحذر.. ارتباك محفوف بالرحمة من قبل الممرضات والممرضين فى الطوارئ.. قلت لهم: أشكو من قلبى أو هو يشكو منى؟ ضحكت الممرضة الشابة.. فى كل حركة احتياطات واحترازات.. موظفات استقبال ينثرن المطهرات يمينا ويسارا.. قلبى يرتبك أكثر ويئن؛ فمنهن سيدات كبيرات فى السن لكن يحرصن على العمل وأداء الواجب فى مواجهة الفيروس اللعين.
انتظرت بقلق رسم النبضات.. لم يشى بشيء.. هرع الأطباء الشبان إلى للاستماع لشكوتى محاولين التحلى بالرفق وبث الطمأنينة تباغتهم أثناء الاستماع إلى حالات عدة: حالات إغماءات وحالات اشتباه فيروس وغيرها من الحالات الطارئة.. شعرت بأننى فى إحدى حلقات المسلسل الأمريكى Grey’s Anatomy.. ووسط حركة دائبة تابعت التحاليل المطلوبة؛ لأرى بعينى حجم الضغط النفسى والذهنى والبدنى الذى يتعرض له جيشنا الأبيض.
قلق من كبيرة الممرضات على ألا ألتقط عدوى بشكل أو بآخر وهكذا مع بقية المرضى، بشكل ما هدأت نبضات قلبى وتم التشخيص بالإجهاد الزائد.. تابعت من وراء الكمامة وبعيون قلقة حالات مرضى يدخلون عالم العزل بأقدام مسلمة بقضاء الله وقدره تظللهم عناية ورحمة الفريق الطبي.
لمحت الرعب فى عيون الأطباء والممرضات يوارونه خلف قفشات ضاحكة وروح دعابة، تشغلهم أسرهم ومن يحبون، يشتاقون للحظات ممتعة معهم، لكن نداء الواجب أهم وأفضل لديهم، يتلقون عشرات الاتصالات للاستغاثة من المصابين.. تذكرت آلاف المتذمرين فى بيوتهم يلعنون الملل فى حين يتعاطى جيش أبيض مع أصعب الظروف فى محاولات لوقف عربدة فيروس كورونا وتلاعبه بالأرواح.
لمت نفسى بحدة، فأنا من بين المتذمرين ألعن أيام وليالى كورونا ولا أتصور أن يحول هذا اللعين بينى وبين شاطئ المتوسط ونسمات بحر إيجه، فلى معه مواعيد للحكى والشكوى والمناجاة أنتظر منه السلوى لكن كورونا يحول بينه وبينى هذا العام الذى عاهدت نفسى ألا أحسبه من عمري، فعمرى أحسبه بعناق البحر وأمواجه!
قبل أيام كنت ألوم البعض ممن يهددون بالاستقالة من القطاع الطبى، لكنى الآن لا ألوم من يخشون على أنفسهم من القطاع الطبى فهم بشر وعلينا أن نقدر أن قدرة التحمل النفسى ليست متساوية، وهذه الجائحة وضعت الجميع أمام اختبارات صعبة لا مثيل لها فى ظل استشهاد عدد من الأطباء ومسئولى التمريض والصيادلة فالأمر جلل والإصابات فى تزايد.. أى تضحية يقوم بها كل منهم تجاه أناس لا يعرفونهم وقد يضرون فلذات أكبادهم وذويهم دون مقابل ودون عرفان!!.
عادة لا أحب مشاركة الأمور السلبية التى أمر بها فى حياتى وأحرص دائما على نشر البهجة والأمور الإيجابية، وأتعامل مع الوعكات الصحية كقدر أخف من قدر أمر به بين الحين والآخر بصدر رحب وبابتسامة رضا، لكن مشاهدتى لهذا التفانى والإخلاص فى مواجهة المرض حتمت على أن أكتب لكم عن مشاهدة صادقة ساقنى إليها القدر عسى أن يتعرف البعض على جهود الفرق الطبية.
بعد عودتى أيقنت بنعم الله علينا أن تظل بين أطفالك تعانقهم وتطاردهم وتكيل لهم الويل وبعد معارك شرسة ينتصرون فيها بكلمة منهم تسترخى فى حجرتك تشاهد التلفاز تنفصل عن الواقع، وشاغلك اليومى ماذا ستأكل وكيف تقضى يومك مرفها متناسيا كورونا وأيامه، بينما يعود الطبيب متحاشيا أهله وأطفاله حرصا عليهم، يحاول الاستراحة من مقابلة الموت اليومية، يختلس ساعات للنوم دون جرس الطوارئ أو رائحة الهواء المشبعة بالمطهرات يقبلون يوميا على العودة لمواجهة الموت. ولا أجد ما أختم به هنا سوى قصيدة جديدة بعنوان «حياةٌ فيروسيةٌ» من ديوانى «أوراق الداليا» من وحى يوم فى غرفة الطوارئ:
اشتقتُ لعناقِ الموجاتِ
أبحثُ عنْ وجوهٍ بلا كماماتِ..
أفواهٍ تراقصها الكلماتُ
لحظاتٌ نسرقها معَ النسماتِ..
نظراتٍ دونَ احترازاتٍ..
عيونٌ تخشى الفيروساتُ
مقلٌ تتوهُ بثنايا القفازاتِ..
خشيةَ قناصِ الزفراتِ
أبوللو ينظم المرثياتِ..
لا يكترث بأرقام الوفيات
......
قلوبُ بأكياسِ واقيةٍ
فلا مواعيدُ للحبِ هذهِ السنواتِ
لياليَ اغتصبتها المسافات
الصمتُ يسكنُ الناصياتْ
تشيخَ الكويكباتُ بلا قبلاتٍ
سأطاردُ عشقيٍ فى آخرٍ المجراتِ!