تلك الصورة. ذلك الرجل الأسود ذو الشعر المجعد الحزين المتصارع مع الهواء في ظلال متكسرة على طاولة صغيرة. يقبض بيديه وفمه على آلة الترومبيت كالقابض على ذاته. والنوتة الموسيقية تتطاير حوله في كل أرجاء القاعة الخشبية الجدران. تشترك ألوان النوتة مع الجدران في الألوان الباهتة المجهدة. الوطن ما زال هنا رغم أنهم ليسوا فيه. لكن الموسيقى مناجاة دائمة لا يمكن أن تنقطع، إنه الجاز.
تذكر الكثيرون الجاز مع تصاعد وتيرة الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ مثل الجاز وسيلة قوية لتعبير الزنوج عن حياتهم الجديدة في العالم الجديد بعد الخروج من صراع طويل مع الرق. حياتهم التى تسير مع حنين دائم للوطن. لا يخلو من أوجاع التعامل مع الشخص المختلف في عالم ما. هناك دائمًا هاجس لا يفارق الإنسان "استمع إلى تاريخك" وهو ما يوقف الكثيرين منا لالتقاط أنفاسه، البعض التقطها وهو يعزف.
حمل الآلاف من الأفارقة رقيقًا أسود إلى الولايات المتحدة الأمريكية "العالم الجديد"، عانوا الكثير حتى تم إلغاء نظام الرق والعبودية عام ١٨٦٣م مع إرهاصات نهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام ١٨٦٥م. كان الكثيرون منهم يعيشون في ولاية نيو أورليانز المسترخية على ضفاف المسيسيبى بليلاته الصيفية الحارة الرطبة. ساعد ذلك على انتشار صالات الرقص الصغيرة التى يحب البعض تسميتها بـ"عُلب الرقص" وكانت تعزف فيها كل الموسيقى. وجد الزنوج أنفسهم أحرارًا، فبدءوا يبثون موسيقاهم داخل الموسيقى الأوروبية، بكل ما يملكون من إرث وحاضر. بإمكانهم الآن أن يعزفوا داخل لحن أوروبى لحن أغنية المحلية غنوها في حقول القمح حين كانوا عبيدًا في موسم الحصاد، وحتى تصل الرسائل الموسيقية بطابع بريدها الأصلى أدخلوا للموسيقى الطبول الأفريقية الضخمة التى تسمى تام تام أو بامبولاس. امتزج كل ذلك بالألحان التى تعلموها في الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانية مع صرخات عذاب العبودية وتعبيرات روحهم المكتئبة المتأثرة بالموسيقى الأوروبية التى كانت منتشرة في ذلك الوقت. أدخلت الموسيقى الأفريقية حالة من الصخب الحزين في الموسيقى الأوروبية اعتمادًا على السلم الصينى الموسيقى (الفينتاتونى pentatonic) الخالى من الانسجام الإيقاعى التقليدى لدى الأوروبييين. إذ أن أغانى الأفريقيين معظمها للعبادة والعمل.
انتشر الجاز في عشرينيات القرن الماضى في الولايات المتحدة الأمريكية، حاول البيض سرقة زعامته في محاولات قليلة بائسة، لتعود الزعامة مرة أخرى بقوة مع الحرب العالمية الثانية للزنوج، إذ أن الارتجال كان أحد أهم خصائص الجاز، والارتجال يحتاج لروح صاخبة تشعر بما تعزفه وتغنيه وتثور على ما يحزنها، وهو ما كان يعيشه الزنوج فعلًا وليس ما يحترفونه فقط. إلا أنه مع نهايات الحرب العالمية الثانية ظهر جيل من فرق الجاز يدعو لما يُسمى بالجاز البارد الذى عمل على تدوين نوتات للعزف والميل لإلغاء الارتجال وتقليل سخونة الدعوة لتحريك الأرجل عبر الموسيقى بل إلغائها أحيانًا. كانت حجتهم أن لهم فنًا راقيًا يستحق الانصات لها بهدوء. إلا أن الجاز مع وصوله للعالمية في ستينيات القرن الماضى نادى الكثير من ملوكه بالعودة للماضى وانتشرت مقولة جون كولتران "أحب أن أرى الناس من حولى يرقصون وأنا أعزف". يعتقد الكثير من سكان أفريقيا أن الحركة والرقص تمثل قربانًا جميلًا لمن نناجى، ومن الصعب أن يتم التخلى عن هذا المعتقد بسهولة.
لم يتفق المؤرخين على أصل كلمة جاز "Jazz" رغم كل هذا الذيوع العالمى لموسيقاه وأغنياته، فالبعض يرى أنها كلمة تعنى الروح والطاقة والنشاط، بينما رأى آخرين استنادًا إلى مرجعها الفرنسى بأنها تعنى "الدردشة"، والبعض يرى أنها كلمة سوقية انتشرت بين الزنوج.
يعد الجاز اليوم من أهم وأشهر أنواع الموسيقى والغناء عالميًا. كأن الموسيقى لا تعترف بالعنصرية وتتحداها بكل أشكالها، وتقدم ثورات ناعمة ناطقة بالرقى من أفقر الأحياء وأكثر البيوت جوعًا وعوزًا "دون أن تحرك عضلة في جسدك" كما يقول المثل الأمريكى الشائع. انتشر الجاز حاملًا كل كلمات الغضب والحزن والحنين في رقى الموسيقى. حارًا وباردًا. سائلًا وجامدًا. مشتاقًا طوال الوقت لتلك الأرض البعيدة المليئة بالدفء والمطر والقمر المكتمل في الصيف الذى لا يرحل أبدًا كى لا يتوقف الأفريقيون عن الرقص والغناء وحب الأرض والسماء في حرية. خصصت منظمة اليونسكو، بدايةً من عام ٢٠١١م، يوم ٣٠ أبريل يومًا عالميًا للاحتفال بموسيقى الجاز ووصفتها بالموسيقى التى كسرّت الحواجز بين الثقافات والطبقات الاجتماعية وقدمت فرصًا للتعايش والتسامح؛ وأداة تتيح حرية التعبير وترمز للوحدة والسلام، كما أنّها تحفّز المساواة بين الجنسين. فسلام على سلام الجاز.