الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"صباح الخير يا جاري"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حَبا الله أهلَ الرِّيف بِصفاتٍ ميّزتهم عن غيرهم ، فمنذُ أن استوطنَ القَرَويُ هذهِ الأرض وعَمّرها، مُنذ أن اختَلطَ عرقه وتربتها ، تَفتّحت أمامه مَجَاهلَ الطِّين ، ونشبت بينه وبينَ الوجود من حَولهِ ألفة عظيمة ، ومحبة كبيرة ، وحَنينٌ لا ينقطع مدّه، انعكسَ كُلّ هذا على أخلاقهِ فَقوّمها، وطباعه فهَذّبها، خلقت منه دوحة وارفةَ الظِّلال ، يَتفيّأ نعيم أغصانها كُلّ عَابرٍ وغَرِيب رحمةً ورأفة . 
يُحبّ القَرويُ أهَلهُ وذويه ، يُخلِّص في ذاكَ الحُب أيّما إخلاصٍ، كيفَ لا يحبهم..؟! وهو يرى نفسه فيهم ، أينما تجَوّلتَ في قُرَانا العَامِرة من أقاصي الصَّعيدِ إلى أدناه ، تُقَابلِك لوحاتٌ بشريةٌ متناغمة الألوان ، مُتناسقة الملامح، مُتحدة المِزاج ، تنجذبُ مكوناتها في وحدةٍ لا تعرف النّقص ، الواحد فيها هو المجموع . 
هي صورة احتشدَ فيها أبناء التّعب من كُلِّ اطيافِهم ، هنا وهناك تُعَِبقُ أنفك رائحة الكَدّ والسَّعي ، رائحةَ الفأس والمِنجَل وغَبار الحَصاد .
في قريتنا التي قُدِرَ أن تبعَد عن العَمارِ مُنعزلة بينَ الحقولِ، تفانى الجَارُ في حُب جاره ، وأنزلهُ من نفسهِ منزلةً فاقت _ في أحيانٍ _ مَكانةَ الأهلِ والأقارب ، هو رفيق اللّعب ، وسمير الأحلام ، وشريك الأماني ، وقسيم الآلام.
في صِبايّ اعتَدتُ المرورَ أمَامَ الأعَتابِ، أُمرر يدي فوق ( الضّبة) ، اشعرُ وكأنّ أهل الدُّور أبناء رجلٍ واحد ، كثيرا ما استفزت عقلي تساؤلات، حَامت من حَولي كَحِومِ العصافيرُ من حَولِ الأجرانِ، أعودُ لأمي مُسرِعا ، اقول بلسانِ الصّغير ، اقصُّ عليها ما رأيت ، في الدّربِ الفلاني رأيتُ فلانًا مُتَربِعًا على طَبليةِ فلانٍ يأكلُ بينهم، وفلانة تدخلُ بيتَ فلانة جارتها بأريحيةٍ ، تَكنسهُ وتغسل ملابسهم .
كنتُ أظنُّ لقترةٍ قريبةٍ أنّ كُلّ جار ٍ، لابدّ وأن تربطه بجارهِ وشائجَ قرابةٍ، أو علائقَ نسبٍ ورَحِم .
حتى تضع أمي راحتها فوق كتفي ، وهي تبتسم ابتسامة صافية ، تستقر معها قلبي ، وتسكن لها نفسي ، قائلة في بشاشةٍ : لا دول جيران ..
جيران..؟! لم أكُن اعرف مدلولَ الكلمة ، ولا ما تَعنيه في ميزانِ الإنسانية ، وأعراف قُرانا وقتَ ذَاك. 
حتى خَبرتُ هذا الأمر، عِشنا في الدّرب الذي توسطَ قريتنا الصَّغيرة عِيشةً هانئة ، رزَقنا الله بجيرانٍ هُم أقرب إلينا من أولى الأرحام ، تُذكِرني أمي دائما ، أنّها كانت تتركني رضيعا في حِجرِ جارتنا المسيحية ؛ لقضاءِ شؤون البيتِ، أو تذهب للحقلِ ببقرتها، لم تَشعر يوما تِلك العجوز بامتعاضٍ أو تململ، بعدَ أن اغلقت عليّ جِلبابها ؛ لتجعلهُ فِراشا وثيرًا انعمُ فيهِ بالراحةِ حتى تعود. 
لازلتُ اتذكّر كيفَ كُنتُ أُنَاديها : .. يا ستي .. يا ستي .. أسوة بأحفادها ، لم يعترض أقربائي ، ولم ينكروا عليّ مقولتي ، لم يَتشدّد مُتشدّدٌ ضَاقَ فكره ، فيرميني زورا وبهتانا ، ويَصفَني بما لا يليق . 
سارت الحياةُ في أزمنةِ قُرانا الغابرة بين الجيران ، خالية من الكُرهِ ، منزوعة الحِقد والضغائن ، لمُ تكن بذور الغِلّ قد بُذرت بعد في تربةِ ابناء الشّقاء وأخوة الطِّين ، وبالأحرى لم يمكّنوا تجارَ البذور من التَسلّلِ لبيعِ بضاعتهم، فبارت أسواقهم وكسدت .
لم يكن وباء التصنّع قد تفشى بين البُسطاءِ ، هناك انسابت حركة الحياة من حولنا سلسة، كمياه الترعة دفاقةٌ لا تعيقها حواجز ولا جُسور . 
ويوم ( السُّبوع) يؤمّن على كلامي ، لازالت تفاصيله عالقة برأسي ، مُنذُ الصَّباح الباكِر تَعمّ الفوضى الدّرب ، جلبة تُحِدثها أصوات النساء المتداخلة هنا وهناك ، يُرددن أغاني ريفية خُصِّصت للمولودِ ، وهناك أكوامٌ من البُوص والحطب أُلقِيت أمام ( كوانين) النارِ ، شيئا فشيئا تتكاثفُ سُحب الدُّخان وخيوطه المتناثرة من تحتِ الحِلل الكبيرة التي امتلأت أرزا ولبنا، وفريق من الفتيات ُيسَارِعن في هِمةٍ ونشاط تغمر وجوههم الفرحة ؛ لوضع ( الطبالي) في مُنتصفِ الدّربِ ، وعليها مُدّت صواني كبيرة من النحاس المجنزر ، امتلأت أرزا ساخنا تتراقص سُحب البخار من حولها ، وأطباق العسل الأسود التي تَحلّقَ حولها الصّغارُ من الجِنسينِ في فوضى عارمة ، وأياديهم المُشرَعةُ تتناوش الأطباقَ ، فتنتهب محتوياتها في شَرهٍ، لا تسمع ساعتئذٍ إلا أصوات الملاعق تحتك بالصواني ، وزمجرة الصِّغار تتوالى في تَحفزٍ ، يشبه زمجرة جِراء القطط ، عندما تتحلق من حَولِ أثداءِ الأم وقت الرضاعة .
عرفت أقدامي طريقها مُبكرًا لهذهِ الموائد المفتوحة ، يتناقلُ أخبارها الصِّغار فيذيعوا على الرِّفاقِ خَبرَ إقامتها المُفرِح قبلها بساعاتٍ بل وأيام، أُسارِعُ كالعادةِ بتحضير ( ملعقتي ) الخاصة وهي أعزَّ ما تملك في تلك المعركة ، كانت تَمتازُ بلمعانها وبريقها الخَاطِفُ للأنظارِ ، وصلابتها التي ميّزتها بين ملاعقِ القومِ . 
اتخيّر ورفقتي مكانا ننفرُد بِه بعيدًا عن مهزلة الصِّغار ، وهربا من جُيوشِ الذباب وجحافله التي غزت المكان ، فملأت الطبالي وأغرقت وجوه الصغار حتى اخفت ملامحهم ، يستمر الأكل حتى منتصف الظهيرة ، فما إن تفرغ صينية حتى تُستبدل بأخرى ، وسط مباركة عَجائزَ الدّرب اللاتي رأينَ في كثرة الزّوار من صغارِ الجيران ، والتفافهم حول الطعام بركة ، وفأل حسن ينتظر المولود . 
في ذَاكَ الوقت من زمنِ الطّيبين اتقنَ الناسُ لغةً واحدة ، عرفوا أصولها تدرّب الصغير عليها حتى حفظها وهو يحبو مع أبناء الجيران ، وبعضهم تجَرّعها سائغة مع حليبِ أمه .
في قريتنا دارت أطباق الطعام تَلِفُ البيوت ، تطعم الجارة جارتها فتجود عليها وعلى أولادها ، بما جَادَ الله عليها هنيئا مريئا .
سمعتُ من نساءِ دربنا قديما عبارة تلوكها الحُنُوك ، رددتها ولا أعرف معناها: المليان يُكُب على الفاضي..
اختفت الآن هذه الأبجديات من قاموس النّاس وأعرافهم ، حتى أضحت كلمة "الجار" من مخلفات الماضي ، تشاهدها محفوظة في صناديق المتاحفِ الزجاجية ، تُطَالِعها أجيال اليوم في غرابةٍ ، جَحدها النّاسُ فجحدتهم .
رأيتُ في زَمنِ " الجِيرة" بأمِ عيني الجار يبكي جاره بملئ العينِ ساعةَ مرضه ، أوعند حلولَ الموت ، يواسيه عند نُزولَ مُصَابه ، رأيتُ من يُقِيم الحِداد عليه .
عْشت فرأيت_ الآن_ الجار يتشفّى لمُصابِ جاره ، رأيته يسعى جهده كي يضره ، يهرول فرحًا كي يدفع عنه أي منفعة ، وفِي أحيانٍ كثيرة ما اسمع بحكايات تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ، فلا حُرمة لعِرض ، ولا احترام لخصوصيةٍ، تفرغَ الجارُ لإيذاء جاره وسعى فيه مخلصا ، كمثل الساعي على الأرملة والمسكين، فلا تجد من يُنكِر عليهِ أو يُخطّئه (إلا ما رَحِمَ ربي ). 
مررتُ في أحدِ الأزقةِ، جذبني شِجارٌ نشبَ بين نسوتهِ، احتدمَ بينهن الكلام ، وغلت الدِّماءُ في عروقهن، قليلا قليلا تطوّر الأمر فأفضى لتشابكٍ بالأيديِ ، تلمظت الألسن بأقذعِ الشتائمِ، بدت أمامي الصورة غيرَ الصورة ، رويدا رويدا هدأ وطيس المعركة ، قالت إحداهن وهي تُغلق عليها بابها بتبجح: هُم دول جيران دول .. أعوذ بالله .
عندها غالبتُ الضَّحك، لم أجِدّ إلا المرور في صمتٍ بينَ الأجسادِ المتلاحمة ، تحومُ من حولي صور وخيالات من الماضي الجميل ، وأنا أضرب كفا بكفِ ، استعيذ الله من سخطهِ وسوء عقابه.