حَبا الله أهلَ الرِّيف بِصفاتٍ ميّزتهم عن غيرهم ، فمنذُ أن استوطنَ القَرَويُ هذهِ الأرض وعَمّرها، مُنذ أن اختَلطَ عرقه وتربتها ، تَفتّحت أمامه مَجَاهلَ الطِّين ، ونشبت بينه وبينَ الوجود من حَولهِ ألفة عظيمة ، ومحبة كبيرة ، وحَنينٌ لا ينقطع مدّه، انعكسَ كُلّ هذا على أخلاقهِ فَقوّمها، وطباعه فهَذّبها، خلقت منه دوحة وارفةَ الظِّلال ، يَتفيّأ نعيم أغصانها كُلّ عَابرٍ وغَرِيب رحمةً ورأفة .
يُحبّ القَرويُ أهَلهُ وذويه ، يُخلِّص في ذاكَ الحُب أيّما إخلاصٍ، كيفَ لا يحبهم..؟! وهو يرى نفسه فيهم ، أينما تجَوّلتَ في قُرَانا العَامِرة من أقاصي الصَّعيدِ إلى أدناه ، تُقَابلِك لوحاتٌ بشريةٌ متناغمة الألوان ، مُتناسقة الملامح، مُتحدة المِزاج ، تنجذبُ مكوناتها في وحدةٍ لا تعرف النّقص ، الواحد فيها هو المجموع .
هي صورة احتشدَ فيها أبناء التّعب من كُلِّ اطيافِهم ، هنا وهناك تُعَِبقُ أنفك رائحة الكَدّ والسَّعي ، رائحةَ الفأس والمِنجَل وغَبار الحَصاد .
في قريتنا التي قُدِرَ أن تبعَد عن العَمارِ مُنعزلة بينَ الحقولِ، تفانى الجَارُ في حُب جاره ، وأنزلهُ من نفسهِ منزلةً فاقت _ في أحيانٍ _ مَكانةَ الأهلِ والأقارب ، هو رفيق اللّعب ، وسمير الأحلام ، وشريك الأماني ، وقسيم الآلام.
في صِبايّ اعتَدتُ المرورَ أمَامَ الأعَتابِ، أُمرر يدي فوق ( الضّبة) ، اشعرُ وكأنّ أهل الدُّور أبناء رجلٍ واحد ، كثيرا ما استفزت عقلي تساؤلات، حَامت من حَولي كَحِومِ العصافيرُ من حَولِ الأجرانِ، أعودُ لأمي مُسرِعا ، اقول بلسانِ الصّغير ، اقصُّ عليها ما رأيت ، في الدّربِ الفلاني رأيتُ فلانًا مُتَربِعًا على طَبليةِ فلانٍ يأكلُ بينهم، وفلانة تدخلُ بيتَ فلانة جارتها بأريحيةٍ ، تَكنسهُ وتغسل ملابسهم .
كنتُ أظنُّ لقترةٍ قريبةٍ أنّ كُلّ جار ٍ، لابدّ وأن تربطه بجارهِ وشائجَ قرابةٍ، أو علائقَ نسبٍ ورَحِم .
حتى تضع أمي راحتها فوق كتفي ، وهي تبتسم ابتسامة صافية ، تستقر معها قلبي ، وتسكن لها نفسي ، قائلة في بشاشةٍ : لا دول جيران ..
جيران..؟! لم أكُن اعرف مدلولَ الكلمة ، ولا ما تَعنيه في ميزانِ الإنسانية ، وأعراف قُرانا وقتَ ذَاك.
حتى خَبرتُ هذا الأمر، عِشنا في الدّرب الذي توسطَ قريتنا الصَّغيرة عِيشةً هانئة ، رزَقنا الله بجيرانٍ هُم أقرب إلينا من أولى الأرحام ، تُذكِرني أمي دائما ، أنّها كانت تتركني رضيعا في حِجرِ جارتنا المسيحية ؛ لقضاءِ شؤون البيتِ، أو تذهب للحقلِ ببقرتها، لم تَشعر يوما تِلك العجوز بامتعاضٍ أو تململ، بعدَ أن اغلقت عليّ جِلبابها ؛ لتجعلهُ فِراشا وثيرًا انعمُ فيهِ بالراحةِ حتى تعود.
لازلتُ اتذكّر كيفَ كُنتُ أُنَاديها : .. يا ستي .. يا ستي .. أسوة بأحفادها ، لم يعترض أقربائي ، ولم ينكروا عليّ مقولتي ، لم يَتشدّد مُتشدّدٌ ضَاقَ فكره ، فيرميني زورا وبهتانا ، ويَصفَني بما لا يليق .
سارت الحياةُ في أزمنةِ قُرانا الغابرة بين الجيران ، خالية من الكُرهِ ، منزوعة الحِقد والضغائن ، لمُ تكن بذور الغِلّ قد بُذرت بعد في تربةِ ابناء الشّقاء وأخوة الطِّين ، وبالأحرى لم يمكّنوا تجارَ البذور من التَسلّلِ لبيعِ بضاعتهم، فبارت أسواقهم وكسدت .
لم يكن وباء التصنّع قد تفشى بين البُسطاءِ ، هناك انسابت حركة الحياة من حولنا سلسة، كمياه الترعة دفاقةٌ لا تعيقها حواجز ولا جُسور .
ويوم ( السُّبوع) يؤمّن على كلامي ، لازالت تفاصيله عالقة برأسي ، مُنذُ الصَّباح الباكِر تَعمّ الفوضى الدّرب ، جلبة تُحِدثها أصوات النساء المتداخلة هنا وهناك ، يُرددن أغاني ريفية خُصِّصت للمولودِ ، وهناك أكوامٌ من البُوص والحطب أُلقِيت أمام ( كوانين) النارِ ، شيئا فشيئا تتكاثفُ سُحب الدُّخان وخيوطه المتناثرة من تحتِ الحِلل الكبيرة التي امتلأت أرزا ولبنا، وفريق من الفتيات ُيسَارِعن في هِمةٍ ونشاط تغمر وجوههم الفرحة ؛ لوضع ( الطبالي) في مُنتصفِ الدّربِ ، وعليها مُدّت صواني كبيرة من النحاس المجنزر ، امتلأت أرزا ساخنا تتراقص سُحب البخار من حولها ، وأطباق العسل الأسود التي تَحلّقَ حولها الصّغارُ من الجِنسينِ في فوضى عارمة ، وأياديهم المُشرَعةُ تتناوش الأطباقَ ، فتنتهب محتوياتها في شَرهٍ، لا تسمع ساعتئذٍ إلا أصوات الملاعق تحتك بالصواني ، وزمجرة الصِّغار تتوالى في تَحفزٍ ، يشبه زمجرة جِراء القطط ، عندما تتحلق من حَولِ أثداءِ الأم وقت الرضاعة .
عرفت أقدامي طريقها مُبكرًا لهذهِ الموائد المفتوحة ، يتناقلُ أخبارها الصِّغار فيذيعوا على الرِّفاقِ خَبرَ إقامتها المُفرِح قبلها بساعاتٍ بل وأيام، أُسارِعُ كالعادةِ بتحضير ( ملعقتي ) الخاصة وهي أعزَّ ما تملك في تلك المعركة ، كانت تَمتازُ بلمعانها وبريقها الخَاطِفُ للأنظارِ ، وصلابتها التي ميّزتها بين ملاعقِ القومِ .
اتخيّر ورفقتي مكانا ننفرُد بِه بعيدًا عن مهزلة الصِّغار ، وهربا من جُيوشِ الذباب وجحافله التي غزت المكان ، فملأت الطبالي وأغرقت وجوه الصغار حتى اخفت ملامحهم ، يستمر الأكل حتى منتصف الظهيرة ، فما إن تفرغ صينية حتى تُستبدل بأخرى ، وسط مباركة عَجائزَ الدّرب اللاتي رأينَ في كثرة الزّوار من صغارِ الجيران ، والتفافهم حول الطعام بركة ، وفأل حسن ينتظر المولود .
في ذَاكَ الوقت من زمنِ الطّيبين اتقنَ الناسُ لغةً واحدة ، عرفوا أصولها تدرّب الصغير عليها حتى حفظها وهو يحبو مع أبناء الجيران ، وبعضهم تجَرّعها سائغة مع حليبِ أمه .
في قريتنا دارت أطباق الطعام تَلِفُ البيوت ، تطعم الجارة جارتها فتجود عليها وعلى أولادها ، بما جَادَ الله عليها هنيئا مريئا .
سمعتُ من نساءِ دربنا قديما عبارة تلوكها الحُنُوك ، رددتها ولا أعرف معناها: المليان يُكُب على الفاضي..
اختفت الآن هذه الأبجديات من قاموس النّاس وأعرافهم ، حتى أضحت كلمة "الجار" من مخلفات الماضي ، تشاهدها محفوظة في صناديق المتاحفِ الزجاجية ، تُطَالِعها أجيال اليوم في غرابةٍ ، جَحدها النّاسُ فجحدتهم .
رأيتُ في زَمنِ " الجِيرة" بأمِ عيني الجار يبكي جاره بملئ العينِ ساعةَ مرضه ، أوعند حلولَ الموت ، يواسيه عند نُزولَ مُصَابه ، رأيتُ من يُقِيم الحِداد عليه .
عْشت فرأيت_ الآن_ الجار يتشفّى لمُصابِ جاره ، رأيته يسعى جهده كي يضره ، يهرول فرحًا كي يدفع عنه أي منفعة ، وفِي أحيانٍ كثيرة ما اسمع بحكايات تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ، فلا حُرمة لعِرض ، ولا احترام لخصوصيةٍ، تفرغَ الجارُ لإيذاء جاره وسعى فيه مخلصا ، كمثل الساعي على الأرملة والمسكين، فلا تجد من يُنكِر عليهِ أو يُخطّئه (إلا ما رَحِمَ ربي ).
مررتُ في أحدِ الأزقةِ، جذبني شِجارٌ نشبَ بين نسوتهِ، احتدمَ بينهن الكلام ، وغلت الدِّماءُ في عروقهن، قليلا قليلا تطوّر الأمر فأفضى لتشابكٍ بالأيديِ ، تلمظت الألسن بأقذعِ الشتائمِ، بدت أمامي الصورة غيرَ الصورة ، رويدا رويدا هدأ وطيس المعركة ، قالت إحداهن وهي تُغلق عليها بابها بتبجح: هُم دول جيران دول .. أعوذ بالله .
عندها غالبتُ الضَّحك، لم أجِدّ إلا المرور في صمتٍ بينَ الأجسادِ المتلاحمة ، تحومُ من حولي صور وخيالات من الماضي الجميل ، وأنا أضرب كفا بكفِ ، استعيذ الله من سخطهِ وسوء عقابه.